للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

التي جددها بخواطره، فأنت منه كما تكون من البحر الداوي لا تدري بماذا استولى على مشاعرك؟ أبحلاله أم بجماله أم بسعته أم بروعته أم بكل أولئك جميعا؟ ثم تفرغ من القراءة وتعود إلى نفسك فتقول: ربما ولدت هذا المولد؛ ونشأت هذا المنشأ، ودرت هذه الدراسة، وسحت هذه السياحة، ورأيت هذه الصور، وعرضت لي مثل هذه الخواطر، ونعمت بمثل هذه الأسرة، ولكن أولئك كله جف في خيالي كما يجف نمير الماء في العود الذابل، ومات في خاطري كما يموت رنين الصوت في الصخر الأصم! ولكنها في الأيام أحيا ما تكون في ذهن، وفي كتاب (في الصيف) أزهى ما تكون في خيال!! ذلك إذن هو الفن الذي يخص الله به إنسانا دون انسان، وذلك إذن هو ما ينقص الناس فيجدونه في الفنان!!

(في الصيف) لا يروعك منه الحادث، ولا تدهشك المفأجاة، ولا تشوقك العقيدة، ولا تفتنك الصنعة، فانه كما قلت لك مجموعة من الذكريات والتأملات يتشقق بعضها كما تتشقق الأحاديث، وإنما يأخذ بلبك منه الصدق في تصوير الفكرة، والحذق في نقل الشعور، والنفس التي تشتد في المجتمع حتى تشتط، وترق في الأسرة حتى تضعف، والروح التي تحلق فوق الأحداث متمردة، وتخفض الجناح لأهواء الطفلين الحبيبين حانية، والألمعية التي تصور بالظن فلا تخطيء اليقين، وتسمو على جناح الخيال فلا تفوت الحقيقة، والأسلوب الذي يحار في تعريفه البيان المكتوب، وأقل ما يصفه به الكاتب العجلان أنه تفضيل في غير إملال، وبساطة في غير ابتذال، وتدفق في غير كدورة، وجدة في غير عجمة، وإهمال نادر يجره وتجرفه الحركة، ومذهب جديد كثر في ناشئة الكتاب من يحاول الجري عليه.

إن في هذا الكتاب صفحة ضاقت بما يضيق به القلب الصديق! نشرتها ظروف وستطويها ظروف، وسيطيل النظر فيها من يعني بفهم هذه النفس الكبيرة على حقيقتها، ودرس ما تتأثر به من العوامل في بيئتها، وان في هذا الكتاب صفحات على نحو ما في (الأيام) من ذكريات الأزهر، وأحاديث إخوان الصفا من طلابه، وآلاف الجمود من شيوخه، ولن يتذوق ما فيها من جمال الفن الا من حي هذه الحياة وشعر هذا الشعور، وان في هذا الكتاب صفحات خالدات لن تجد كثيرا من أمثالها في الأدب العالمي! تلك ما كتبت عن فرنسا عامة وعن الألزاس خاصة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>