للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الصافية التي مزجت قوة الإبداع بجمال الحياة، استطاع أن يجمع بين النقيضين؛ وإلى ذلك توصلت روحه؛ ولكن عقله - وهو بشري محدود - لم يهتد إلى سر التوفيق بين ما يقع تحت فهمه من تناقض ظاهر في فكرتي خلود الفن وزوال الحياة، وبين طمأنينة روح (بجماليون) ونفسه إلى هذا التنافر البين الواضح. . .؟ وفي هذه المرحلة من القصة، تصل الفكرة الفلسفية إلى أبعد أغوارها، وتبدو عقدة الرمزية فيها رائعة الجمال، تمثل أبرع تمثيل وأصدقه ما يقوم من خلاف بين العقل في حدوده المادية من جهة، وبين الروح والنفس في جوهرهما المتجانس الموحد من جهة أخرى. وعلى قدر سعة اختلاف النظرتين، وبمقدار قصور العقل عن فهم ما تشمله الروح من آفاق، وما تصل إليه النفس من حقائق، يشتد الغموض على المثال البطل، ويشتد كرب نفسه، وتغشاه هموم العماء والعيش في المجهول. . . ولا يدرك هذا الألم النفسي الهائل الناشيء بين العقل والروح عن اختلافهما في الفهم واختلاف طبيعتهما في شمول الأشياء والنفوذ إليها، إلا عبقري كالبطل المثال، أو عبقري كالبطل الكاتب الحكيم!

وإذا عرفنا بعد هذا أن العقل هو الحكم في هذه الخصومة التي بينه وبين الروح عرفنا شقاء هذا البطل الشاب (بجماليون) ومقدار الحيف الذي لحق روحه الشاعرة وقواه المبدعة وصفاء نفسه الجميل!

قال: (قوة الفن! وما قوة الفن تلك التي يستطيع بها الهالك أن يخلق الخالد!)

وقال الفن: (ردوا علىّ عملي. . . ردوا عليّ (جالاتيا) كما كانت تمثالاً من عاج. . . أيها الآلهة، دعوني وشأني، لنفسي ومخلوقات نفسي، وما أنا إلا صنوكم ونظيركم؛ بل إني عليكم سموت، وعلى قدرتكم تفوقت، فأنتم ما فعلتم غير أن أفسدتم الجمال الذي أقمت. . أفسدتم جمالي الخالد، أفسدتم جمالي الخالد).

وقالت الحياة كلاماً كثيراً ولكن على غرار ما نطقت به قولها: (نعم! المودة والرحمة. . . أشياء تعطيها الحياة، ولا يستطيع أن يعطيها الفن!)

وقال المثال كلاماً أطول من كلام الحياة ولكن كلمتين صدرتا منه أدين بهما في هذه الخصومة، وهما قوله في موقف المقارنة بين (جالاتيا) صنماً و (جالاتيا) امرأة: (كل ما فيك محدود وكل ما فيها غير محدود) وقوله في معرض الاعتراف بانكساره وخطيئته:

<<  <  ج:
ص:  >  >>