للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

عالية. ولكن يبدو من تصريحهم أن انتظار الثواب في الآخرة يحرضهم على الصدقة بقدر ما تحرضهم الشفقة ببني جنسهم أو الرغبة المنزهة في القيام بما يأمر الله. ويمكن من بعض الوجوه أن نعزو كثرة المتسولين في القاهرة إلى ميل السكان إلى الإحسان.

ومن آثار هذه الفضيلة أيضاً إقامة السبل الجميلة التي نراها في هذه المدينة، والسبل الوضيعة في القرى والحقول. كان يسرني كثيراً أول اختلاطي بالمصريين أن أشاهد شفقتهم في معاملة الحيوان وأن أرى البعض يجمع أطراف ثيابه المرسلة ليتحاشى لمس الكلب، ثم يقذف للحيوان الدنس قطعة من الخبز الذي يأكله. وكانت جرائم القتل والسرقة وغيرها نادرة حينئذ. ولكني أجد اليوم أغلب المصريين قد انقلبوا إلى الأسوأ في شفقتهم نحو الحيوان وبني جنسهم. ويبدو لأول وهلة أن شدة الحكومة المفرطة قد أوجدت في الشعب البغي والميل إلى الإجرام، إلا أنني أميل إلى الظن بأن سلوك الأوربيين أفضى كثيراً إلى هذه النتيجة، إذ لا أتذكر أنني رأيت قسوة في معاملة الحيوان إلا حيث يسكن الفرنج أو حيث يترددون مثل الإسكندرية والقاهرة وطيبة. ويتقزز المرء من رؤية حمير النقل التعسة في القاهرة، فأكثرها مصاب بجروح قرمزية كالياقوت الجمري، وتعقرها على الدوام حبال غليظة من مسد تربط بظهر البرذعة. وكثيراً ما يضرب الأطفال والرجال الكلاب في الشوارع لمجرد اللهو. وكثيراً ما رأيت أطفالاً يلهون بمضايقة القطط التي كانت محبوبة كثيراً قبلا. وكانت جرائم السرقة والقتل تحدث أسبوعياً تقريباً أثناء الشهرين أو الثلاثة التالية لقدومي الثاني. وكان الحكام الترك يجورون على الفلاحين ولكن بعض هؤلاء منذ خلفوهم على الحكم فاقوهم في الطغيان. والرأي العام أنهم ألعن من الأتراك

ومع أني أشاهد الآن على التوالي الكلاب الشريدة تضرب في شوارع القاهرة وهي هادئة لا تضر، فلا أزال أرى بعضهم يطعمونها وأغلبهم فقراء. ويوجد في كل حي من أحياء المدينة أحواض صغيرة تملأ يومياً للكلاب. ويؤجر أصحاب الحوانيت في شارع واحد سقاء لرش الشارع وملء أحواض الكلاب. ويوجد أيضاً حوض للكلاب عند كل دكان لبيع الشراب. ويمكن أن نذكر هنا أن كلاب القاهرة، وقلما يكون لها صاحب، تكون جماعات منظمة مختلفة تقصر كل منها نفسها على حي تطرد منه كل كلب دخيل. وهذه الحيوانات تكثر جداً في القاهرة. وهي تحرص على العموم أن تتجنب الإنسان كما لو كانت تعلم أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>