للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

(وأما تهديد الرعية بسبب نصيحتنا، وتهديد طائفة العلماء فليس هو المرجو من عدل السلطان وحلمه، وأي حيلة لضعفاء المسلمين في الناصحين نصيحة للسلطان ولهم ولا علم لهم به؟ وكيف يؤاخذون به لو كان فيه ما يلام عليه؟ وأما أنا في نفسي فلا يضرني التهديد ولا أكثر منه ولا يمنعني ذلك من نصيحة السلطان، فإني أعتقد أن هذا واجب علي وعلى غيري. وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله تعالى. (إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار). (وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد). وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول الحق حيثما كنا وألا نخاف في الله لومة لائم)

ولما ذهب السلطان إلى الشام لمحاربة التتار أراد أن يأخذ مالاً من الرعية يستظهر به على العدو واستفتى العلماء فأفتوه. ثم سأل عن الشيخ النووي أن يشارك العلماء في الفتوى. فلما حضر الشيخ قال السلطان: اكتب خطك مع الفقهاء. فامتنع. قال السلطان: لماذا لا تكتب؟ قال الشيخ: (أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير بندقدار، وليس لك مال. ثم من الله عليك وجعلك ملكا. وسمعت أن عندك ألف مملوك كل مملوك له حياصة من ذهب، وعندك مائتا جارية لكل جارية حق من الحلي. فإذا أنفقت ذلك كله وبقيت ممالكك بالبنود الصوف بدلاً من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي أفتيتك بأخذ المال من الرعية)

قال الظاهر للشيخ: أخرج من بلدي (يعني دمشق)

قال الشيخ: السمع والطاعة. وخرج إلى نوى

فأنكر الفقهاء أن يُخرج مثل النووي من المدينة، وسألوا السلطان أن يرجعه. فأمر السلطان بإرجاعه. فأبى الشيخ وقال: لا أدخلها والظاهر بها

لست ادري أكان السلطان محقا في فرض ما فرض من المال أم لا. ولست لذلك أعرف أكان الشيخ محقا في مجابهة السلطان بما جابهه به، ولكن لا ريب عندي أن السلطان أحسن حين التمس فتوى العلماء قبل أن يجمع المال، وأن الشيخ أدى واجبه حين صارح السلطان بما يعتقد، ولم يأخذه في الحق خوف ولا طمع، وأن محي الدين النووي قد فقه أحسن الفقه ما على العلماء من النصيحة لأولى الأمر، والجهر بالحق في غير مداهنة ولا خوف. رحم الله النووي؛ لقد كان من علماء المسلمين. ولله تاريخ المسلمين كم فيه من أمثال محي

<<  <  ج:
ص:  >  >>