للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[مرسلات مع الريح]

نعش وباب

للأستاذ إسماعيل مظهر

نحو الشمال. . . وسرنا في ليل معتم، والمطر ينهمر كأن السماء تحاول أن تدك بمائها الغمر ذلك الأديم الذي تنزلق من فوقه حوافر الجياد

مال ميزان النهار، واكتهل اليوم الخامس عشر من شهر يناير سنة ١٩٣١، قبل أن ندلف بجيادنا في قفر سبسبٍ في شمال الدقهلية وقصدنا بلدة يقال لها (غرور). وكان ثلاثتنا في صمت محزن، فلا ينبس أحدنا ببنت شفة. وكنا في حالة ترقب بعد أن انحدرت الشمس نحو المغيب، وأرسلت من خلال فجوة في السحب الدهم، غلالة حمراء من غلائلها التي تتيه بها في أشهر الشتاء

وهبّ ريح لافح تضرب وجوهنا بألسنة من الزمهرير، وتعصف بشجيرات من الطرفاء هنالك، فتسمع لها نواحاً أشبه بأنين البوم يتداعى ويتجاوب

وقد تراكب في السماء سحاب من فوقه سحاب، وانحدرت نحونا سحابة كأنها المداد، فخيل إليّ أنها قضاء الله في الظالمين، ينحدر إلينا متثاقلاً وفي تمهل العالم بأنه لابد من أن يصيب حيث يرمي. ولم تلبث أن رمتنا بذلك السيل المنهمر

مدت الجياد أعناقها نحو الأرض لتتقي بذلك انهمار المطر، وراحت تمشي حذرة متلكئة. فالأرض سبخة والطريق وعر، وقد استحال آلافاً من البرك الصغيرة، في كل منها منزلق، وفي كل منها مهواة؛ حتى لقد تذكرت في تلك الآونة جنة ذلك الرجل الذي كفر بربه، فأصبحت صعيداً زلقاً

وأين نحن من (غرور)؟ إنا منها على عشرة فراسخ، في ليل ممطر شديد السواد، قارس البرد، قر الرياح. وقد ابتلت ثيابنا وأخذ الماء يسري فيها، كما تسري الخمر في أعصاب المنتشين، حتى إذا بلغ جلودنا مضينا ننتفض ملتزمين ذلك الصمت الرهيب

ذلك القفر السبسب ملك لحكومتنا. وقد تبلغ مساحته آلافاً وآلافاً من الأفدنة، لا يؤنسه غير نبات البردي بنيت حيث تجتمع المياه، ونبات الطرفاء يحتل نبكاته المرتفعة، متشبثاً بها وكأن كل نبتة منه غريق في لج مائج

<<  <  ج:
ص:  >  >>