للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تعصب الناس للدين، فأصحاب المدنية الحاضرة لا يشنون الحرب على غيرهم بسبب اختلاف في الدين كما كان يحدث في القرون الوسطى مثلاً. ضعف إذن التعصب الديني إلى حد كبير، وليس معنى ذلك أن هذا التعصب القديم لم يصبح له أثر، كلا! بل أقول إن الدين لم يعد له تأثير كبير في سياسة الدولة وتوجيه الحكومات حتى تشن الحروب على غيرها بسببه، فهذا التعصب أصبح ضعيفاً جداً وهو إن وجد فإنما يوجد بين الطبقات الجاهلة من الشعب وهي التي لا تحكم العقل في قليل ولا كثير وإنما تخضع للعاطفة والوجدان والخيال أكثر من أن تخضع للعقل

ونحن لا نستطيع أن نبين مزايا المدنية الحاضرة إلا إذا وازنا بين الشعوب المتمدينة والشعوب غير المتمدينة، أما الأولى فيحكمها القانون وتسيطر عليها هيئة منظمة تحقق فيها التوازن بين مختلف الفرق والطوائف والطبقات، ويسود مجتمعها الهدوء والسكينة، فإذا طغت سلطة على سلطة فإنما الهيئة العليا هي التي تحد من هذا الطغيان. وهي فضلاً عن هذا النظام الذي نتمتع به لها جميع وسائل الراحة التي أنتجها العقل البشري. والثانية في فوضى لا ضابط لها، لا تخضع إلا للغريزة، وفيها يحاول الإنسان أن يأكل أخاه الإنسان، وفيها يعيش الإنسان وكأنه لا يعيش، لا يعرف من أحوال هذا العالم شيئاً. ينتقل من مكان إلى مكان كالحيوان حينما ينتقل من شجرة إلى شجرة، لا يدري ما أحدث العلم من تقدم ولا يعرف ما قدمه العقل من وسائل الرفاهية والسعادة. فالفرق عظيم بين الشعوب الأولى والشعوب الأخرى، كالفرق بين الإنسان المثقف والغير مثقف، الأول يحاول أن ينفذ ببصره إلى أعماق الأشياء فيعمل على تفهم أسرار الطبيعة، أما الآخر فإن العالم مغلق في وجهه، أسراره محجوبة عليه لا يستطيع لها كشفاً

فالمدنية الحاضرة تعمل أن يسود النظام المجتمع، وعلى أن يطيع الإنسان القانون، وعلى أن تكون العلاقة بين الأفراد علاقة منظمة أساسها الاحترام والود، ورائدها المنفعة العامة للدولة وللناس جميعاً. وتعمل أيضاً على تنظيم العلاقات بين الدول بحيث تكون خاضعة لعادات وتقاليد وقوانين، وبحيث تشرف على هذا هيئة عليا كجمعية أو عصبة عامة أو محكمة عليا. وليس منا من يفضل الفوضى على النظام أو التمرد على الطاعة

وكيف يجوز لنا إذن أن نثور على المدنية الحاضرة وهي التي أشعرت الفرد بكرامته وقوة

<<  <  ج:
ص:  >  >>