للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الضمير الهارب]

للدكتور طه حسين

لم يكن صاحبي ساذجا ولا غليظ القلب ظاهره كهذا الضابط الفرنسي الذي اظنك رأيته في دار من دور السينما، يأتمر مع أصحابه ليغير النظام في فرنسا ويرد إلى العرش ابن نابليون. فبينما هو ذات يوم يمشي على رصيف من ارصفة باريس لقى رفيقا من رفاقه في جيش الامبراطور. وكان العهد قد بعد بينهما فوقع اللقاء من نفس الرجلين موقعا حسناً، وتحدثا عن الجيش وعن الامبراطور، وتحدثا عن امس وعن غد، ولم يكرها ان يذما يومهما ويسرفا في ذمه. ثم ذهب الصديقان إلى حيث كان الضابط يحدث صاحبه عن أصدقائهما وما يأتمرون به، ثم مازال الحديث ينتقل بهما من موضوع إلى موضوع حتى عرف الضابط ان صديقه لم يقم على عهد الامبراطور، وإنما اثر لين الحياة فعمل في جيش الملك. هنالك لم يستطع الضابط ان يلوم صاحبه ولا ان يعاتبه، ولا ان يناقشه في شئ، ولم يزد ان اطفأ المصباح حتى لا يرى وجه هذا الصديق الخائن وفهم الرجل عن صديقه فأنصرف عنه خزيان اسفا.

لم يكن صاحبي ساذجا غليظ القلب طاهره كهذا الضابط الفرنسي، وإنما كان رجلا مترفا لا في حياته المادية، بل في حياته المعنوية خاصة. كان مترف العقل جداً لا يكتفي بظواهر الأشياء ولا يقنع بحقائقها، وإنما يبغي شيئا ارقى من الظواهر واعمق من الحقائق كأنه اللب والخلاصة لكل شئ. وهو إذا وصل إلى هذه الخلاصة وذلك اللب ولم يقنع بهما وإنما تخير منهما انقاهما وارقاهما واشدهما ملائمة للعقل الممتاز، والذوق الرفيع، والشعور الراقي، والنفس الأبية العالية. وكان صاحبي قوي الحس جدا، ولكنه كان شديد الازدراء للحس، يضعه في موضعه الطبيعي فلا يكبره ولا يغلو في العناية به، ولا ينتظر منه إلا ما ينتظر في الأداة التي لا يراد منها إلا ان تؤدى للعمل الذي هيئت له، فهو لا يريد من حسه إلا ان ينقل إليه صورة الحياة الخارجية، فإذا نقلها إليه شغل بها فحقق ودقق، ومحص وصفى، واثر نفسه بخلاصة ما ينتهي إليه التحقيق والتدقيق والتمحيص والتصفية، فغذى به عقله وقلبه وشعوره؛ وفكر فيه فأطال التفكير، واستخرج منه أقصى ما يستطيع استخراجه من اللذة والألم، ومن العبرة والعظمة، ومن الغبطة والحزن.

<<  <  ج:
ص:  >  >>