للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أن يطيل فيها النظر، ويشغل بها الفكر، ويرجع في كل ما يعمل لأصولها الثابتة وقواعدها المقررة، ليتقي الضلال والخطأ، ويأمن الإغراق والتكلف

هذا الكتاب المحيط المعجز الذي ألفته يد القدرة قد تجمعت على هوامش متنه الهائل عقول بني آدم منذ استبصوا، يحاولون كشف أسراره وفهم حقائقه؛ فوفِّقوا بالاستقراء والاستنباط إلى ابتكار علوم، وابتداع فنون، تخصص في هذه أقوام، وفي تلك أقوام، كالجيولوجيين والجغرافيين والطبيعيين والكيميائيين والفلكيين والمهندسين وسائر من يتصل علمهم أو عملهم بالأرض والسماء، واليبس والماء، والجماد والحي. والأديب وحده هو الذي يجب عليه أن يشارك في كل علم ويلم بكل فن؛ لأنه عرضة لأن يكتب في كل أولئك ولو على سبيل التصوير والتشبيه. فإذا لم يكن واقفاً على مصطلحات الفنون والعلوم، عارفاً بمختلف الحدود والرسوم، قدح ذلك في ثقافته وغض من كفايته. ولقد عبرنا بالمشاركة والإلمام لأن دراسة الأديب للطبيعة تختلف عن دراسة الفيلسوف لها: الفيلسوف يدرسها ليعرف، والأديب يدرسها ليحتذي. الفيلسوف يشرح ويحلل، والأديب يصور ويمثّل. فحظ الأديب من درس الطبيعة هو حظ المصور من درس التشريح: لا يزيد على القدر الذي يضيف إلى جمال التخيل جمال الحقيقة، ويجمع إلى دقة المثال براعة الطريقة

إن الأسباب لا تعني الأديب وإنما تعنيه النتائج. فالفلكي يرقب فعل الجاذبية، ويرصد حركة الأفلاك؛ ولكن الشاعر يصور نظامها الدقيق وتلاؤمها العجيب وتطورها الدائم. والطبيعي يحلل الضوء والصوت؛ ولكن الشاعر يُسمعك في شعره هزيم الرعد من جبل إلى جبل، وزفيف الريح من واد إلى واد، فيقذف في قلبك الرهبة. ويريك وميض البروق الزُّهر تتكسر في الأفق صفائح وهاجة تشق رُكام السحائب الجون، فتبعث في نفسك الروعة. والكيميائي يشرح سطوع الروائح على طريقته الخاصة؛ ولكن الشاعر يصورها لذهنك في النسيم الرفاف يصفق في الهواء بأجنحته المخضلة بأنداء الفجر، المضمخة بعطور الصباح

وأما دراسته للطبيعة فلأنها الينبوع الثّرُّ لما يزخر به الشعر والنثر من مختلق الغرائز والعواطف والأفكار والأحاسيس؛ ومعرفة الينبوع في مصدرِه وجوهره ومداه، شرط في معرفة ما يصدر عنه على حقيقته وطبيعته وأثره. وإذا كان من خصائص فن الكاتب أن يخلق أشخاصاً للقصص، ويمثل أهواءً على المسرح، يعالج أخلاقاً في المجتمع، ويحلل

<<  <  ج:
ص:  >  >>