للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

متعرضاً لدواره وأخطاره، وإذا أصابه مرض في الطريق أو في الفندق فماذا تكون عاقبة أمره؟ ذلك فضلا عن الغذاء الدنيء والمسكن الوبئ والعناء المبِّرح.

أجمع صديقنا في الأمر رأيه، ووطن على البقاء نفسه، فكتب الكتاب بالرفض ودفعه إلى الخادم ليحمله إلى مكتب البريد القريب، ولكن الخادم لم يكد ينطلق بالكتاب حتى تحرك الشك في نفسه، وتغير المنظر الماضي في عينه، فكأنما سحر ناظره. أو تبدلت مشاعره!

ذلك البلد الذي استخف به منذ قليل تجلى لعينيه في صورة جذابة أنيقة، وتلك الأحاديث العجيبة التي سمعها عنه تواردت على ذهنه تباعا منمقة الحواشي بسحر جمال المفقود، وحب استطلاع المجهول، ثم تمثلت أمام عينيه فوائد تلك الرحلة وملذاتها، فعاد باللائمة على نفسه! كيف عميت بصيرته عن هذه المنافع جمعاء؟ وكيف إعتاقه عن هذا الأمر مئونة الاتفاق والنصب؟ أن متاعب السفر هي الصحة والقوة والحياة! ولا شيء أذهب للعمر وأقتل للمرء من أن يظل قعيد بيته مخلداُ إلى عيشة رغيدة وادعة. وحياة متشابهة مملة، تلك فرصة ما يحسب الدهر بمثلها يجود!

رحلة ممتعة مفيدة! وإخوان صدق ملئوا ظرفا وعلما! أن ذلك الرفض ضرب من البله والجبن!

تحول ذلك التوبيخ أسى وحسرة، وبلغ به الحنق والشوق والخجل حد الهياج والقلق، فأهوى بيده إلى الجرس، وصاح بأحد الخدم أن يرد عليه الكتاب وحامله، فقال له: أن الخادم يا سيدي أنصرف إلى وجهه منذ ربع ساعة!

فارتد الرجل كاسفاً حزينا، وانقلب ما حوله مظلما قبيحا، واستولى الضجر على نفسه، وأصبح بيته الجميل الرحب أضيق في عينيه من كفة الحابل، ثم ما لبث أن عاد إلى نفسه وأخذ يفكر في جواب الخادم، فقرر أن المسافة إلى مكتب البريد يقطعها الخادم راجلا في ربع الساعة، فإذا قطعها هو على سيارة استطاع أن يوافيه قبل أن يضع الكتاب في صندوق البريد.

وما هو إلا رجع البصر حتى أنطلقت به السيارة يشق صوتها المزعج زحام الطريق؛ ولكنه لم يضع قدمه على عتبة البريد حتى كان الخادم خارجا منه وقد أنجز عمله!. بهت صديقنا وكاد يستسلم لليأس لولا أن مر ذكر التلغراف على خاطره، فبرقت أساريره وقال:

<<  <  ج:
ص:  >  >>