للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مثل الحقيقة في رأى أفلاطون

أورد التوحيدي في مقياساته مقالة لأفلاطون جاء فيها (إن الحق لم يصبه الناس في كل وجوهه، ولا أخطأوه في كل وجوهه، بل أصاب منه كل إنسان جهة. ومثال ذلك عميان انطلقوا إلى فيل، وأخذ كل واحد منهم جارحة منه، فجسها بيده ومثلها في نفسه، فأخبر الذي مس الرجل أن خلقة الفيل طويلة مدورة شبيهة بأصل الشجرة وجذع النخلة، وأخبر الذي مس الظهر أن خلقته شبيهة بالهضبة العالية والرابية المرتفعة، وأخبر الذي مس أذنه أنه منبسط دقيق يطويه وينشره. فكل واحد منهم قد أدى بعض ما أدرك، وكل ما يكذب صاحبه ويدعى عليه الخطأ والغلط والجهل فيما يصفه من خلق الفيل.

فانظر إلى الصدق كيف جمعهم، وانظر إلى الكذب والخطأ كيف دخل عليهم حنة فرقهم؟

وأنت إذا امتثلت قول أفلاطون هذا خير امتثيل، استطعت أن تجد فيه تفسيراً لما يقوم بين الناس من نزاع في كل مجال فلا يكاد الناس يتفقون في أية ناحية من نواحي الفكر والوجود على الرغم من أن الحقيقة في ذاتها واحدة. والسر في هذا الاختلاف، أن الذهن البشري لا يستطيع - لفرط قصوره وعجزه - أن يحيط بالأمر الذي ينظر إليه إحاطة وافية، ولذلك نراه يقصر نظره على ناحية واحدة من نواحيه، فلا يصيب منه إلا جهة واحدة، ومن ثم تفوته جهاته الأخرى التي عمى عنها. والذي يحدث أن الجهة التي يصيبها الفرد الواحد تكون مغايرة لما يصيبه غيره من الأفراد، فينشأ من ذلك الاختلاف والتنازع. وليس ثمة شك في أن كل ما يقوم بين الفلاسفة والمفكرين من خلاف في الرأى، إنما يترتب على اختلاف (الجهات) التي ينظر منها كل واحد منهم. وكثيرا ما تكون آراؤهم جميعاً صحيحة صائبة على الرغم من التعارض الذي يوحي به ظاهر القول. ولعل المرء لا يعدم لذلك في الطبيعة نفسها، مثالاً حياً صادقاً: فإن المنظر الطبيعي الواحد، يختلف أشد الاختلاف تبعاً للجهة التي ينظر منها الإنسان إليه حتى إنك لترى صورتين قد أخذتا لمنظر واحد، فتتوهم أنهما تمثلان منظرين مختلفين، وما ذلك الا لأن الجهة التي أخذت منها الصورة الواحدة، مختلفة عن تلك التي أخذت منها الصورة الأخرى.

(مصر الجديدة)

<<  <  ج:
ص:  >  >>