للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

جميلاً في هذه الدنيا، أو لتكمل نقصاً من كثير من أوجه النقص التي تعيبها. . . وماذا تنقم من الناس؟ ولماذا لا تنال شرفك بأن تكون خادمهم المتواضع؟ ألست ترى إلى هذه الأقلام المتهافتة التي تنفث السم في أخلاق ذويك؟ ألست تراها كيف تغازل الشهوات النائمة، والعواطف الرخيصة، والألباب الشاردة، والقلوب الضالة؛ تفتنها بالأدب المخنث، وتهيجها بالأسلوب الماجن، وتمزق حياءها بالغرام الذي لا يخجل، والفسوق الذي لا يرعوي، والرذيلة التي جثمت على صدر فرنسا فأوهت بنيانها وزلزلت أركانها وأسلمتها للهوان والخذلان!. . . يكتبون للشرق عن غادات بلزاك، وقيان شاتوبريان، والعبد الأسود الذي تَسَوَّّرَ إلى شهرزاد في فحمه الليل ليطفئ ما في قلبها ولتطفئ ما في قلبه. . .!! يا للهول!! ماذا يكتب هؤلاء الضالون لهذا الوطن المنكوب بهم؟! متى كانت مصر في حاجة إلى فولاذ ينصب في أخلاق بنيها كما هي اليوم، بدلاً من هذا السم الذي تتجرعه ولا تكاد تسيغه؟. . . وأنت مع ذاك يا قلمي تغط في سباتك العميق لا توقظك أحداث الزمن، ولا تدميك صرخة الإنسانية، ولا يُفزعك أنين السماء، ولا يُشجيك بكاء الملائكة، ولا يُروِّعك أن يأكل الإنسان لحم أخيه الإنسان! لقد انتهت الإنسانية إلى المأساة التي أفزعت أفلاطون وأوحت إليه أحلام الطوبى، وروَّعت توماس مور ووسوست إليه برُؤى الفردوس. . . الفردوس الجميل الشعري الذي يلهم المفكرين ويغازل ألباب المصلحين!! لماذا تغمض هكذا أيها القلم كما يغمض الطفل المفزوع يرى المنظر المروّع فيطير له لبه، وينخلع له قلبه، وتطير نفسه شعاعاً؟ ألا يجد يداً عطوفاً فتنقذه، ولا نجدة من السماء فتباعد بينه وبين ما يرى؟!

أَلا لقد أصبحت خشيتك الأطباء تعلة، هي أقسى على صاحبك من العلة؛ وصار خوفك

على صحته من الداء، داء أشق على روحه من جميع الأدواء. . . وها أنتذا قد أصابك الصمم، وجرَّ عليك سكوتك البكم، فلست تتوجع لأبناء وارسو، ولا يضنيك أن يحصد الموت شعب روتردام، ولا يهمك أن تنشق الأرض تحت كوفنتري، ولا أن تبيد ستالينجراد، ولا أن يبلع اليم جواريه؛ ولست ترثي لعذارى كييف، ولا يفزعك ما أنزله المثأورون بكولون. . . ثم ها هي ذي اليونان العزيزة، هيلاس الخالدة، جنة الأولمب وفردوس الخالدين. . . اليونان التي حَبَسّتُك عليها طويلاً يا قلمي، فعلمتك الجمال وألهمتك الفن وجرى منها في عودك ماء الحب. . . اليونان التي وهبَتْك أحلامها واستودعتك

<<  <  ج:
ص:  >  >>