للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فتظل أساليبهم نسخاً منقولة عن الأصول العامة الموروثة لا يختلف بعضها عن بعض إلا بمقدار ما تختلف رسائل التجار وكتب الدواوين

وبهذه الصفات القومية العامة تميزت لغة من لغة، واختلف أدب عن أدب؛ فاللغات الشرقية في جملتها تتميز من الغربية بالزخرف والأبهة والانتفاخ والتبجيل والتهويل والصوفية؛ لأن شعوبها صبغوها بهذه الأصباغ من صفاتهم الخاصة. والفروق المعروفة بين الفرنسية في وضوحها ودقتها، وبين الإيطالية في رخاوتها ورقتها، وبين الإنجليزية في خشونتها وقوتها، هي نفسها الفروق بين أصحاب هذه الأمم الثلاث في أصل الجبلَّة وموروث الطبع

وكما تؤثر صفات الأمة في طبيعة اللغة، تؤثر طبيعة اللغة في أسلوب الكاتب؛ فاللغات التي اكتسبت من مدنية أهلها رقة اللفظ وأناقة العبارة، ومن شاعريتهم جمال الصور وروعة الأخيلة، تغنى الكاتب بموسيقاها وحلاها عن كد القريحة في ابتكار المعاني واستنباط الفكر. أما اللغات التي لم تؤتها الطبيعة حظاً موفوراً من سحر اللفظ وفتون الصياغة، فكتابها مضطرون إلى أن يعوضوا أساليبهم من ذلك، وجازة التعبير، ووزانة التفكير، ومدَّ القارئ بفيض من المعاني يشغله عن الفكر فيما فاته من جمال الأسلوب

واللغة العربية من النوع الأول، طبعها أهلها منذ القدم على موسقة الألفاظ، وتنويع المعاني بصور البيان، وتفويف الجمل بألوان البديع، لا فرق في ذلك بين بداوتها وحضارتها، ولا بين فصحاها وعاميتها، حتى اطمأن كثير من رجال القلم إلى أن يُعفوا طباعهم من جهد التفكير ويحاولوا امتلاك القلوب بروعة الأسلوب، فكانت المقالة أو القصيدة أشبه بالقطعة الموسيقية تخلب الأذن ولا يبلغ النفس والذهن منها غير رجع ضعيف. ومن هنا قرَّ في أكثر النفوس أن الأسلوب إنما يطلق على الجانب اللفظي من الكلام، حتى قال الأستاذ الرافعي طيب الله ذكره: (فصل ما بين العالم والأديب، أن العالم فكرة، والأديب فكرة وأسلوبها) ففصل بين الفكرة والأسلوب، واعترف بالأسلوب للأديب وأنكره للعالم. ولعلِّي أوفق إلى تصحيح هذا الرأي فيما يلي من هذا الحديث.

(للكلام بقية)

احمد حسن الزيات

<<  <  ج:
ص:  >  >>