للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يهدهد طفله في (ترنيمة سرير) حزينة بموسيقاها المطردة!) وكان قد قال عن المقطوعة الثانية: (وهانحن منذ المقطوعة الأولى في جو الشعر فالنفس تئن)

يكفي إذن عند الأستاذ (مندور) أن تكون القصيدة لأحد شعراء المهجر، وأن يكون فيها حزن وأنين، لتنال منه الحب والاستحسان! ومرد هذا كما قلت إلى (مزاج خاص) هو إلى الحالات المرضية أقرب فيما أعتقد

هناك عقدتان نفسيتان لعلهما تلتقيان عند عقدة واحدة. فالأستاذ - كما لمحت في أحاديثي القصيرة معه - حاد المزاج، سريع التأثر، شديد الحنين والألفة، وهي صفات إنسانية تحب، ولكنها لا تصلح للناقد ولا يستقيم معها النقد. وهو يقول في إحدى مقالاته:

بلغني أن (أمين مشرق) قد قتلته سيارة بأمريكا، فحزنت وراجعت نفسي في سر ذلك الحزن، وهذا رجل ما رأيته قط، ولا حدثني عنه أحد، وإنما هي مصادفات الحياة ساقتني وأنا طالب، إلى كتاب به مختارات لشعراء المهجر، فتفتحت لنغماتهم نفسي، واصطحبت الكتاب إلى أوربا سنوات، وعدت (بكتابي) القديم كما ذهبت به، وإن تكن جلدته قد ضاعت، وأوراقه الأولى قد تآكلت، وأصبحت لا أعرف له عنواناً. ولكنني أفرغ إليه كلما ضاق الصدر أو عض الألم، فأجد بين صفحاته من عبير الروح ما يحيي الإيمان

(أمين مشرق، بين من يضمهم (كتابي). له فيه صفحات من الشعر والنثر. كم آنست من وحشتي ورفعت من قلبي. إنه صديق قديم)

هكذا كتب الأستاذ (مندور) وأنا (أحب) هذه النغمة منه. ولكني من أجلها لا أثق بأحكامه الأدبية - وبخاصة في الشعر - ومن أجلها كذلك أحذر القراء من الاطمئنان إلى هذه الأحكام!

في (مندور) حنان وألفة، وهو قد (هاجر) إلى أوربا وحمل معه إلى المهجر كتاباً يضم مختارات لشعراء (المهجر) وكان هذا وحده يكفي لأن يحب هذا الكتاب وشعراء هذا الكتاب. ولكنه كان كذلك كتاب الصبا الذي رافقه وهو (طالب)، وجلدته قد ضاعت، وأوراقه قد تآكلت. ولكنه عاد (بكتابه) القديم كما ذهب به، فزاده ذلك إعزازاً لديه وأثارة عنده. وصار يفزع إليه كلما ضاق الصدر أو عض الألم. وكان (أمين مشرق) بين من يضمهم كتابه فاستحق لقب (الصديق القديم) وكان سواه من شعراء المهجر كذلك. فكل منهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>