للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[مقياس الرقي]

للأستاذ أحمد أمين

سألني أديب سوري، بمناسبة مقال كتبته عنوانه (المسلمون أمس واليوم)

بم نعد أمة أرقى من أمة، وما العوامل التي نحسبها ونقيس بها الرقي؟ وفي الأمة الواحدة - إذا سئلنا أكانت بالأمس خيراً منها اليوم، أم هي اليوم خيرٌ منها أمس. فأي النواحي نرعاها عند النظر؟

والحق أنها أسئلة في منتهى الصعوبة، يحار المجيب عنها أي العوامل يحسب وأيها يترك، وأيها لها قيمة كبيرة الأثر وأيها ضعيف الأثر؟

قد يجيب مجيب إجابة سهلة من طرف اللسان فيقول (مقياس الرقى في الأمم الأخلاق) فأرقى الأمم أحسنها خلقاً ولكن هذه الإجابة لا تقنع، فالأخلاق متغيرة، وكل عصر له أخلاق يتطلبها وواجبات ينشدها، وما علينا الآن من واجبات أضعاف ما كان على أجدادنا منها، أصبح واجباً علينا أن نعلم أولادنا في المدارس، وما كان ذلك واجباً من قبل إنما كان تبرعاً من الأب، وأصبح واجباً علينا ترقية الوطن من جهات متعددة وما كان ذلك واجباً من قبل، وان كان واجباً فواجب غامض ليس محدود المعنى ولا معين الاتجاه، وكان آباؤنا يعدون من أرقى الأخلاق في الأمة حجاب نسائها وبناء سور متين بين الرجل والمرآة، فأصبحنا نرى الواجب أن تتعلم المرآة كما يتعلم الرجل، ومن حقها أن تسمع المحاضرات مع الرجل، وأن تتمتع بالحياة البريئة كما يتمتع الرجل، فإذا قلنا مقياس الرقي الأخلاق كانت كلمة عامة تدل على كل شيء ولا تدل على شيء.

وقوم يقيسون الرقي بالدين، وهي كذلك كلمة عامة يختلف مداولها باختلاف أنظار الناس فيضيق عند بعض الناس حتى لا يسع إلا الصلاة والصوم والزكاة والحج، ويتسع عند بعض الناس حتى يشمل كل شيء.

وفي الحق أن هناك مناحي للحياة مختلفة متعددة يجب أن ينظر إليها كلها لتقويم الرقي - ففي كل أمة مجموعة من المرافق، يعد كل مرفق منها كالخلية في الجسم الحي: من حكومة وتعليم ولغة ودين وأسرة ونظام اقتصادي ونحو ذلك، كلها تتغير وكلها ترقى أو تنحط، وكلها في حركة مستمرة دائماً إما إلى الإمام وإما إلى الخلف. وكلها تتفاعل تفاعلاً قوياً،

<<  <  ج:
ص:  >  >>