للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ورأيت البطل ابن أبي عامر يحالف الظفر في خمسين غزوة، ويبعد المغار حيث نكصت الهمم والعزائم من قبله. ورأيت دولة الأمويين تزلزل فتتصدع فتنهار، وأبصرت ملوك الطوائف يتنازعون البوار والعار، ويؤدون الجزية إلى الفونس السادس صاغرين. ثم سمعت جلبة جيوش المرابطين يقدمها يوسف بن تاشفين، وشهدت موقعه الزلاقة القاهرة، ثم رأيت راية المرابطين تلقف رايات ملوك الطوائف. وهذه دولة الموحدين، وهذا المنصور يعقوب بن يوسف في موقعه الأرك يحطم جيوش الأسبان بعد الزلاقة بمائة عام. ورأيت موقعه العقاب وقد دارت على المسلمين دوائرها. والناصر ابن يعقوب يفر بنفسه بعد أن اقتحمت عليه المنايا دائرة الحراس ورأيت غرناطة وحيدة في الجزيرة يتيمة، قد ذهبت أترابها، وصارت كما قال طارق يوم الفتح: أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، ولكنها على العلات، ورثت مجد المسلمين وكبرياءهم فجالدت الدهر عن نفسها مائتين وخمسين عاما، وحمت حضارة المسلمين على رغم النوائب وكلب الأعداء. ثم رأيت أشراط الساعة - رأيت أبا الحسن وأخاه محمدا يتنازعون السلطان على مرأى من العدو ومسمع، ورأيت أبا عبد الله ينازع أباه أبا الحسن. ذلك الملك المائل، والظل الزائل، ورأيت العراك المديد بين أبي عبد الله وعمه الزغل كما تتناطح الخراف في حظيرة القصاب. وتلك جيوش فرديناند وايزابلا تنيخ على مدينةبعد أخرى، وتدك معقلا بعد آخر، ومالقة تجاهد الكوارث جهاد المستميت، والزغل يشق الأهوال إليها لينقذها، فيقطع أبو عبد الله طريقه ويرد جنده. ومالقة في قبضة العدو، وأهلها أسارى يباعون في الأسواق ويتهاداهم الملوك والكبراء. وهاهو الزغل يسلم وادياش إلى العدو على منحة من الأرض والمال. ثم يعيا بأعباء المذلة والهوان فيهاجر إلى الغرب. ثم شهدت يوم القيامة، الجيوش محيطة بغرناطة وأهلها يغيرون على العدو جهد البطولة والاستبسال والصبر، ثم يغلق عليهم الضعف أبواب المدينة. وهذا من ربيع سنة سبع وتسعين وثمانمائة، وأبو عبد الله يسير إلى فرديناند في كوكبه من الفرسان لا محارباً ولا معاهداً، ولكن ليسلم إليه مفاتيح الحمراء. نظرت الصليب الفضي الكبير يتلألأ على أبراج القلعة، وبكيت مع أبي عبد الله وهو يودع معاهد المجد وملاعب الصبا من الحمراء وجنة العريف. وسمعت أمه عائشة تصرخ في وجهه: (ابك اليوم كالنساء على ملك لم تحتفظ به احتفاظ الرجال) فينهل دمعه، وتتصاعد زفراته على

<<  <  ج:
ص:  >  >>