للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الخيرة، فلم يجدوا غير مصر مراحاً لأرواحهم وعبقرياتهم، وصورة لأمجادهم وذكرياتهم، فتوافدوا عليها شقين طامحين، وأكرمت هي وفادتهم ومودتهم، وقد عقدت بينهما وبينهم وشائج القربى والتاريخ وروابط اللغة والدين. وسبق اللبنانيون إليها مهاجرين فسكنوا وادي النيل وكأنهم بين أهل وعشيرة، فاستهوتهم بحفاوتها وخيراتها، وساهموا في نهضتها المعاصرة مساهمة لمعت آثارها في المرافق التجارية والحياة الأدبية، ومازالت مجاني ثقافتهم وصحافتهم دانية القطوف في المقتطف والهلال والمقطم والأهرام. على أن هؤلاء المستوطنين ما لبثوا أن تركوا طوابعهم السورية واللبنانية ما وراء العقبة واتسموا بمياسم مصر فتكلموا لهجتها العذبة واقتبسوا من عاداتها وتقاليدها، واكتسبوا من (جنسيتها) فشاركوا أهلها في التبعات والواجبات وصار لهم حق مراتب الدولة، وفي مجلسي الشيوخ والنواب

وشاءت الأحداث منذ الحرب الغابرة أن تفرق بين الإخوان والجيران في التخوم والإقليم، أما وحدة الشعور واللغة وعلائق المودة والهموم، فكانت تزيدها الأيام والآلام حدة وقرباً، وما ألمت بمصر حادثة أو دهمت بلاد الشام كارثة حتى كانت صيحات المواساة والمؤتمرات تعلن تبادل الولاء والوفاء بين القطرين المجاورين. وللشام كما قلت هوى بمصر عريق، ولكنه كان كميناً دفيناً فلم يجد له بثاً وبعثاً غير الأدب والثقافة، فكانت المنابر والأقلام مظاهر ذلك الشعور والإخاء، وأكب العرب في جميع أقطارهم على أدب المصريين وصحافتهم. بيد أن الشاميين كانوا أشد تعلقاً بأدباء الكنانة وشعراء النيل. ولا بدع إن اتجهت أنظارهم صوب مصر الشقيقة الكبرى وأعجبوا بآثار أدبائها وشعرائها ومآثر العروبة والإسلام فيها، فقد كان هذا القطر العزيز سباقاً إلى نشر الثقافة والمعرفة بما توافر لديه من أعلام الفكر والصحافة، وبما تكاثر فيه من دور التربية والتعليم ومعاهد اللغة والدين، فما يكاد يصدر عن مصر كتاب لأحد أدبائها حتى يتهافت كل مثقف في هذه الديار على قراءة هذا الكتاب واقتنائه، بل ما أحسب أن دار علم عندنا أو معهد فن أو مكتبة أديب أو متعلم تخلو من مؤلفات المصريين في ألوان الثقافة والأدب، وما تظهر مجلة مصرية أو جريدة حتى نتلقاها بشوق وترحاب، وقد عجب لهذا طابعو الكتب وبائعوها فعلموا أن جل هذه الأسفار والصحف تقرأ وتروج في بلاد الشام وسائر الأقطار العربية أكثر مما تروج

<<  <  ج:
ص:  >  >>