للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بقى أن نعرف شيئاً عن نوع هذا التصوير في مدرسة طه حسين، أو بتعبير أصح في طبيعته. فهو التصوير الحسي الذي يرد المعنى والخواطر صورا حسية، أو كالحسية - بله المناظر والحوادث - فهذه يعيدها كما بدأت أول مرة توشك أن تكون مجسمة.

وهو يخلع على هذه الصور الحسية ألواناً من ألوان الحياة والحركة؛ ولكنها الحياة اللطيفة والحركة الوئيدة التي تدب على هينة، وتخطر في رفق. فالسرعة النابضة والحيوية الدافقة ليستا من مطالب هذه الصور في يوم من الأيام.

وقد يكون المثال هنا أوضح من مقال:

(هذه شهرزاد قائمة منه غير بعيد، تنظر إليه نظرات فيها الحنان والمكر؛ وهي مغرقة في ضحك هادئ عذب يرتفع له صدرها وينخفض، ويغشى وجهها بغشاء من الجمال الرائع ليس إلى تصويره من سبيل. وهذا الملك ينظر إليها مسحوراً مبهوراً وهي تضحك من ذهوله وحيرته، ولكنه ينهض خفيفاً ويسعى سريعاً، إذا بلغها أو كاد جثا أمامها غاضباً بصره إلى الأرض، رافعاً يده إلى السماء، كأنه المؤمن الذي يتقرب إلى التمثال؛ وهي تضع يدها على رأسها ضاحكة، كأنها تبارك عليه، ولكنها لا تلبث أن تستحيل إلى حنان خالص، وإذا هي تميل إليه مترفقة، فتضع على جبهته قبلة حلوة حارة طويلة. ولو أنها تحدثت في تلك اللحظة لأحس شهريار في صوتها تهدج العبرات التي تريد أن تندفع من العيون، ولكنها الإرادة القوية تمسكها فيظهر أثر هذا الصراع في الصوت المحتبس والألفاظ التي لا تبين. ولكنها لم تقل شيئاً، وإنما استقام قدها المعتدل، وامتدت يدها الرخصة إلى الملك فأنهضته صامته، واستجاب لها الملك صامتاً طيعاً فمضت به خطوات إلى نشز من الأرض قريب يكسوه العشب، فأجلسته وجلست بجانبه، وأحاطت عنقه بيدها؛ ثم أمالته في رفق حتى وضعت رأسه على كتفها، وظلت تنظر إليه وهو ينظر إليها، وهما مغرقان في صمت عميق. ثم يسمعها شهريار تتحدث إليه في صوت هادئ وادع، وهي تقول له: (ألم يأن لنا بعد أن نهبط من السماء، وأن ننزل إلى الأرض فنعيش فيها مع الناس؟)

(ولكن شهريار لا يجيبها، وإنما تنحدر من عينيه دمعتان هادئتان تمسحهما شهرزاد في رفق، ثم تنعطف إلى الملك فتقبل جبهته مرة أخرى؛ ثم تقيمه حتى إذا استوى في مجلسه

<<  <  ج:
ص:  >  >>