للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

جعلت تمر أصابعها في شعره رفيقة به باسمة له مطيلة النظر إليه صامته مع ذلك لا تقول شيئاً. وكأن هذا العطف الصامت الحار قد بعث الحياة والنشاط في قلب الملك وجسمه، وفي عقل الملك وإرادته، فهو يرفع رأسه إلى شهرزاد ويسألها في صوت كأنه يأتي من بعيد: ألا تنبئينني آخر الأمر من أنت وماذا تريدين؟)

ولقد أطلنا في هذا المثال لأنه يجمع كل ألوان التصوير الحسي في طبيعة الدكتور: فيه المعاني الذهنية والخواطر النفسية، وفيه الحركات والحوادث والمناظر وكلها مرتسمة مصورة متحركة هذه الحركة اللطيفة المتتابعة في يسر وتؤدة

فمن شاء أن يرجع إلى أمثلة خاصة لكل نوع فليرجع إلى كتب، الأيام، وأديب، وأحلام شهرزاد، وهدية الكروان، والحب الضائع. ثم ليرجع إلى هامش السيرة. كتابنا اليوم الذي جرنا إلى هذا الكلام! واقرأ في الصفحة الأولى من الجزء الثالث

(كان الشيخ مهيباً رهيباً، وكان فخماً ضخماً، قد ارتفعت قامته في السماء، وامتد جسمه في الفضاء؛ وكان وجهه جهماً عريضاً، تضطرب فيه عينان غائرتان بعض الشيء، ولكنهما على ذلك في حركة متصلة لا تكاد أن تستقران؛ وهما متوقدتان دائماً ينبعث منهما شيء كأنه الضوء المشرق على هذا الوجه الجهم الغليظ، فإذا لحظتا شيئاً أو أطلنا النظر إليه فكأنما تقذفانه بالشرر، أو تسلطان عليه شواظاً دقيقاً قوياً من النار. وكان الشيخ فوق هذا كله ذكياً حاد الذكاء نافذ البصيرة، يتعمق ما يعرض له من الأمر دون أن يحس الناس منه تعمقاً لشيء. يسأله الناس فيجيبهم لساعته جواب من فكر وقدر وأطال التفكير والتقدير، فيعجبون منه ويعجبون به. وكان بعد هذا كله بطيء المشي، ثقيل الحركة، وقوراً في كل ما يصر عنه، وكان صوته يلائم هذا كله من أمره، فكان صوتاً ضخماً عميقاً، يسمعه السامع فيخيل إليه أنه يخرج من غار بعيد القاع. وكان الناس يهابونه ويرهبونه كما كانوا يجلونه ويكبرونه. فإذا سألتهم عن مصدر ذلك لم يعرفوا كيف يجيبون، إنما كان هذا الرجل يبهرهم ويسحرهم ويملأ نفوسهم إكباراً وإعظاماً، فإذا ذكر الوليد بن المغيرة فقد ذكر سيد من أروع سادات قريش ورجل عظيم من رجالات البطحاء). . . الخ

هذه اللوحات المرسومة في بحبوحة، وهذه الصورة التي تخطر في وناء وتدب في رفق، هي مزية الدكتور الأصيلة، مزيته التي يتجلى فيها فنه ويؤدي بها رسالته. ولقد يخطئك في

<<  <  ج:
ص:  >  >>