للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[عظة العيد وعبرة الذكرى]

لصاحب العزة الأستاذ أنطون الجميل بك. .

إذا كانت (الهجرة النبوية) من (مكة) إلى (يثرب) قطب الدائرة في انتشار الرسالة المحمدية واستطارة الدعوة إليها من المشرق إلى المغرب في حقبة قصيرة من الزمن، فإنها إلى جانب هذا حادثة من أعظم حوادث التاريخ وأبلغها أثراً في تغيير اتجاهات الإنسانية. وقد صار يوم الهجرة أو التاريخ الهجري بداية تاريخ جديد إلى جانب تاريخ الخليقة والتاريخ الميلادي. فلا بدع أن ينصرف الباحثون والمنقبون من جميع الأمم منذ ثلاثة عشر قرنا، إلى درس ذلك اليوم التاريخي، فيتناولوا بالبحث والتحليل ما سبقه من المقدمات، وما صاحبه من الحوادث، وما أعقبه من النتائج، حتى أنه ليخيل أنه لم يبق من زيادة لمستزيد.

ولكن الحوادث الكبرى في تاريخ البشرية كنز عبر لا يفنى، ومعين فوائد لا ينضب، يرجع المرء إليها كلما تعقدت حوادث حاضره، والتبس عليه مصيره في مستقبله.

والشرق اليوم، في صبره على الحاضر وانتظاره المستقبل، أحوج ما يكون إلى استخلاص الفوائد والعبر من عظائم الحوادث الغابرة. والإنسان أمام المستقبل المجهول يبحث في الماضي عن قبس ينير له الطريق: فالسياسي يعود إلى السوابق، والقانوني يرجع إلى العرف والتقاليد، والاجتماعي يذهب منقباً في ثنايا التاريخ.

أما العبرة التي نحتاج إليها من هذه الذكرى في حاضرنا فهي ما اكتنف الهجرة من اضطهاد؛ وأما الفائدة التي ينبغي أن نستخلصها لمستقبلنا فهي ما قضت به على ذلك المهاجر المقدام من تضحية. فنفهم حينئذ حق الفهم أن كل دعوة تقوم على يقين صادق وإيمان راسخ لا يستطيع أحد أن ينال منها. فهي كالحرية: كل ما يصنع ضدها يعود بالخير عليها. والإرادة الثابتة لا غالب لها، فهي تتخذ من كل ما يقوم في وجهها من العقبات درجات ترتقيها إلى هدفها الأسمى.

فالالتجاء إلى الهجرة انتهى بتآلف المهاجرين والأنصار، والعودة إلى الديار تحت رايات الانتصار

والاضطرار إلى الاختباء في ظلمات (الغار)، مهد الظهور في وضح النهار

ومن السكون الموحش الذي خيم في تلك الليلة الليلاء، انطلق ذلك الصوت المدوي في

<<  <  ج:
ص:  >  >>