للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فلا غرو إذا رأيناه يتمثل - في هذه الرسالة - طريقاً ضيقاً يبتهل إلى خالقه أن يجزي صاحب (المعري) أحسن الجزاء مكافأة له على ما بذل من صالح المسعى، ويتجه الدرب إلى الله أن يبدل من شعابه الضيقة، مسالك وطرقاً فسيحة الرحاب. تغدو - لفرط سعتها - كأنها الصحاري والسباسب، لا تضيق بالعدد الأوفر من الجيوش الحاشدة والمواكب. وأن تتبدل أحجار الأكمة الخشنة، فتصبح بعد خشونتها ناعمة، كأنها لملاستها رق نعام

ثم يتمادى في خياله فيتمثل القدرة الإلهية قد بدلت لصاحبه أحجار التلال موائد حافلة بلذائذ الأطعمة والأشربة، يصيب منها الجائع ويرتوي الظمآن كما شاء، لا يتكبد في ذلك مشقة ولا عناء

وللمعري - في غير هذه الرسالة أيضاً - من روائع الصور الفنية التي يتمثل فيها من عجائب القدرة الإلهية، ما لا تتسع له هذه الإلمامة الموجزة، فلنجتزيء من ذلك بوجازة خاطفة، تاركين التفصيل لفرصة أخرى، فهو يقول في فصولة:

(يقدر الله على المستحيلات: رد الفائت، وجمع الجسمين في مكان، وما لا تحتمله الألباب، إذ كان لا ينسب إلى عجز أو انتقاص. فإذا مررت بعود بال، فاعلم أن الله يستطيع أن يكسوه أخضر كخضرة الحسام، حتى يورق ورقاً، كعدد الرمال، ويقف على كل ورقة ورقاء (حمامة) تعبده بألحان معبديات (منسوبة إلى (معبد) المغنى المعروف) أو يقول:

وفي قدرة الخالق أن يجعل الراحة (بطن اليد) ذات ذوائب، والهامة (الرأس) كفاثور اللجين (خوان الفضة) وأن يجري الفضة من الفجاج) أو يقول: (والله - بقدرته - يطير ذوات الأخفاف)

ثم يسبح الخيال بأبي العلاء. فيستبق الأجيال، حتى ليتمثل عصرنا الحاضر: عصر السرعة الخاطفة وما يتلوه من عصور، متنبئاً بما كشفه العلم وما لم يزح الستر عنه إلى اليوم، فيقول:

(إن شاء المليك قرب النازح وطواه، حتى يطوف الرجل - في الليلة الدانية بياض الشفق من حمرة الفجر طوفه بالكعبة حول (قاف) (وهو - فيما تقول الأساطير جبل محيط بالأرض)، ثم يؤوب إلى فراشه والليلة ما همت بالأسحار)

وثمة يطفر به خياله الوثاب، فيتمثل في عالم الأماني والأحلام ما بلغه العلم بعد عصره

<<  <  ج:
ص:  >  >>