للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[١٩ - دفاع عن البلاغة]

١١ - التلاؤم في الأسلوب

رأيت معي أن تقطيع المنثور من الكلام جملاً أو فقراً أو فواصل عمل بلاغي تقتضيه حالة النفس وحركة الذهن وطبيعة التنفس. وهذا التقطيع - وإن نشأ في اللغة على مقتضى الطبع - له فلسفة وهندسة وموسيقى هن عناوين علم البلاغة، وبراهين فن البليغ. فأما الفلسفة فقد أشرت إليها في مقالي السابق إشارة توجه أو تنبه. وأما الهندسة والموسيقى فملاكهما التلاؤم بين أجزاء الفقر وفواصلها. فإن كانت الفواصل متعادلة فهو التوازن، وإن كانت متماثلة فهو السجع. مثال الأول: وآتيناهما الكتاب المستبين، وهديناهما الصراط المستقيم. ومثال الآخر: إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم. فبين المستبين والمستقيم تعادل، وبين نعيم وجحيم تماثل. بله التوازن بين آتيناهما وهديناهما، والكتاب والصراط، والأبرار والفجار

والتوازن ويسمى الازدواج موسقةٌ فطرية في نفوس العرب جعلوا بها النثر أشبه بالنظم في جمال الرصف الأسلوب لا تكاد تنفك عنه في جميع أغراضه ومختلف صوره. وهو في ذلك يخالف السجع فإن للسجع موضوعات ومواضع لا يطلب إلا لها، ولا يحسن إلا فيها: ولذلك يقبل في غرض دون غرض، ويجمل في صورة دون صورة. قال ابن أبي الأصبع في تحرير التحبير: (كان المتقدمون لا يحفلون بالسجع جملة، ولا يقصدونه بتة، إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام، واتفق من غير قصد ولا اكتساب، وإن كانت كلماتهم متوازنة، وألفاظهم متناسبة، وفصولهم متقابلة. وتلك طريقة الإمام علي ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام كابن المقفع وسهل بن هرون والجاحظ). وقال أبو هلال في الصناعتين: (لا يحسن منثور الكلام ولا يحلو حتى يكون مزدوجاً. ولا تكاد تجد لبليغ كلاماً يخلو من الازدواج. ولو استغنى كلام عن الازدواج كان القرآن؛ لأنه في نظمه خارج عن كلام الخلق. وقد كثر الازدواج فيه حتى حصل في أوساط الآيات فضلاً عما تزاوج في الفواصل منه). وقال في موضع آخر: (واعلم أن الذي يلزمك في تأليف الرسائل والخطب هو أن تجعلها مزدوجة فقط. ولا يلزمك فيها السجع. فإن جعلتها مسجوعة كان أحسن ما لم يكن في سجعك استكراه وتنافر وتعقيد).

<<  <  ج:
ص:  >  >>