للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فإنه مجنون!

وكثيراً ما كان العلماء يتحامقون أو يتجانّون إذا دُعوا إلى القضاء. وكانوا يرون فيه مهلكة لا ينجو منها إلا من رحم الله. ويخافون أن يزلّوا فيعاقبوا. دعا المنصور أبا حنيفة وسفياناً الثوري، ومسعراً، وشريكاً، ليوليهم القضاء. قال أبو حنيفة: أنا أتحامق فيكم، فأُقال وأتخلص. وأما مسعر فيتجان ويتملص، وأما سفيان فيهرب. وأما شريك فيقع. فدخلوا على المنصور، فتحامق أبو حنيفة، وتجانن الثوري ومسعر، فنجوا

ومثل هذا فعل عبد الله بن وهب لما دعاه الخليفة ليتولى قضاء مصر، فقد تجنن نفسه، فلزم بيته

وقد حفلت كتب الأدب بنوادر رائعة، غير ما ذكرنا، عن التحامق والتجانن في هذا الباب، فمن أطرف ما يروى في ذلك أن رجلاً آلى بيمين أن لا يتزوج حتى يستشير مائة نفس لما قاسى من بلاء النساء. فاستشار تسعة وتسعين نفساً وبقي واحد. فخرجَ على أن يسأل أول من نظر إليه. فرأى مجنوناً قد اتخذ قلادة من عَظم، وسوّد وجهه، وركب قصبته. فسلَّم عليه الرجل، وقال له: مسألة. فقال المجنون: سل ما يعنيك، وإياك وما لا يعنيك. قال الرجل: فقلت مجنون والله، ثم حدثته أني أصبتُ من النساء بلاء، وآليت أن لا أتزوج حتى أستشير مائة نفس، وأنت تمام المائة. فقال اعلم أن النساء ثلاث. واحدة لك، وواحدة عليك، وواحدة لا لك ولا عليك. فأما التي لك، فشابة طرية لم تمس الرجال؛ فهي إن رأت خيراً حمدت، وإن رأت شراً قالت: كل الرجال على مثل هذا. وأما التي عليك، فامرأة ذات ولد من غيرك، فهي تسلخ الزوج لتجمع لولدها. وأما التي لا لك ولا عليك، فامرأة قد تزوجت قبلك. فإن رأت خيراً قالت هكذا يجب، وإن رأت شراً، حنت إلى زوجها الأول. فأعجبني كلامه، وملأ نفسي، فسألته ما الذي غير من أمره: قال. رشحت للقضاء، فاخترت ما ترى على القضاء

فهذي طرف تضحك بادئ ذي بدء، فإذا تأملها الإنسان وجد في عمل أصحابها العقل الحسن؛ والتدبير الحازم، والرأي السديد

(دمشق)

صلاح الدين المنجد

<<  <  ج:
ص:  >  >>