للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

من هراء، فتماسكت موهوما وقلت، ولكن هذه يا سيدي هي الآراء التي سمعتها من أساتذة السربون في علم الاجتماع وعلم النفس؛ فأجابني: ومن أنبأك أن هؤلاء الأساتذة يفهمون شيئا عن حقائق الإنسان؟ أتظن أن حقائقنا البشرية من اليسر بحيث تصاغ نظريات أو يكشف عنها التفكير المجرد؟ ثم من قال إن التفكير الفرنسي يمثله ذلك النفر من اليهود الذين يزعمون أنهم قد اكتشفوا قوانين الإنسان، عندما زعم كبيرهم دركايم ومن خلفه ليفي بريل وموسى وفوكونيه، ومن تبعهم أن الإنسان حكمه حكم المادة، وأن هناك ما يسميه هؤلاء الحمقى وعيا اجتماعيا تتمخض عنه الحياة العامة كما يتمخض الناتج الكيماوي عن مزيج من العناصر، أحذر يا بني أن تؤمن بما يقولون فليس صحيحا أن الرجل المهذب لا يستطيع أن يصل إلى قيادة شخصية يهتدي بها إلى مواضع الخير والشر والبطولة والخسة بنفسه، كما تهتدي الطيور إلى أوكارها. وليس صحيحا أن قواعد الأخلاق ليست إلا ظواهر اجتماعية لا نستطيع في علاجها شيئا، وكل ما يجب عمله هو أن نرصدها، كما يفعلون لنستخرج منها قوانين عامة. هذا يا بني وهم، بل خداع مبطلين، ثم اذكر أننا في مجال المعرفة بالإنسان، ليس لنا إلا هدف واحد هو أن تصبح خيرا مما نحن. فبالله، هب أن هذا الهراء حق، فأي فائدة ستجني منه الإنسانية؟ أنا أفهم أن نكشف عن قوانين المادة، لنسيطر عليها ونسخرها في مرافق حياتنا، ولكن الإنسان ما شأنه بالقوانين؟ ومن قال إن الإنسان مادة فحسب، وهب أنه كان مادة، وأن الروح لم يكن لها وجود، وأنها تفنى بفناء المادة كما تنعدم النغمات بتحطم الناي، أليس من الخير، بل من الواجب على الإنسانية أن ترفض علما كهذا لن ينتهي إلا بتحطيم حياتنا وشل إرادتنا وتقويض دعائم الهيئة الاجتماعية التي نحيا بينها؟

هذا هو الدرس القاسي، الدرس الصارم النافع الذي تلقيته عن الشيخ في مستهل حياتي، رويته اليوم راجيا أن تتدبره شبيبتنا الناهضة. ولقد تذكرته إذ قرأت في إحدى صحف المساء مقالا لشاب أكبر الظن إنه حديث التخرج من قسم الفلسفة بالجامعة، ولقد رأيت شابنا المسكين يتحدث عن (مكافحة الأميين في ضوء علم الاجتماع) فيزعم أن هذه المكافحة ستجري ضد قوانين علم الاجتماع المزعومة، وأنها لذلك لن تنجح لأن عقلية الفلاح ليست عقلية حضارة وعلم، وإنما تصبح كذلك بعد أن تنتشر الصناعة في مصر،

<<  <  ج:
ص:  >  >>