للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والإمساك مكروهون؟. . . والصوم كما أفهم عبادة مردها إلى الضمائر، ومرجعها إلى السرائر، ليست عبادة نفاق، ولا تجارة للإرتزاق، ولا يقصد بها سوى الخلاق! ومن أراد أن يبدو للناس صائماً وهو عند الله مفطر كان ذلك عليه يسيرا، لا عسيرا! أما أن يمسك عن الطعام، ولا يفتأ يسب الصيام، كأنه على فعله مسير، لا مخير، فذلك ما لا أستطيع له تأويلا، ولا أعرف له تعليلا. . . ورجعت إلى داري وقد انتصف الليل أو كاد، وأنا في إبراق وإرعاد، أسب هؤلاء الأوغاد، وأحمد الله على تلك الوحدة والانفراد. . .

وفي الليلة التالية - وكانت آخر ليالي رمضان - ذهبت كدأبي إلى مكاني المعهود، ومراحي المنشود، فما عتمت أن رأيت الناس وقد تنفسوا الصعداء، وأبرقت أساريرهم بالبشر والصفاء، كأنما انحطت أثقالهم، وانفكت أغلالهم، وتحللوا من وقر لا يطيقونه، وأسر لا يحتملونه، ولا حديث لهم إلا ما كانوا يحرمون في رمضان من لذات، ويمنعون من طيبات، ورأيت فيما رأيت بعد برهة شخصاً يخب في المسير، حتى ليكاد أن يطير، فلما وقع بصره على إخوانه في السهر، ورفاقه في ليالي السمر، صاح فيهم يقول:

رمضان ولى هاتها يا ساقي. . .!!

فرد عليه جميعهم في صوات واحد، وكل منهم يشير إلى صدر نفسه قائلاً:

مشتاقة تسعى إلى مشتاق!

وسرعان ما أداروا بينهم الكؤوس، حتى مالت الرؤوس فحوقلت ورجعت، ومن الشيطان بالله استعذت، وقلت: ليلة أخرى أحتسبها عند الله، الذي لا يحمد على مكروه سواه، وهرولت إلى بيتي كأسف البال، سيئ الحال، أعجب كيف لم يهذب الصيام تلك القلوب الكاشحة، ولم يكبح تلك الطبائع الجامحة. . .

وفي فجر يوم العيد الأغر، وبعد انبلاج صبحه الأزهر، خرجت ألتمس العظات، بزيارة الأموات، فقصدت إلى تلك الصحراء الموحشة التي ينتهي إليها الجميع، الرفيع منهم والوضيع؛ والمتبوع منهم والتبيع، تلك التي تسكن النفوس عندها وتخشع، وتتأمل القلوب لديها وتخضع، وتزهد الطامع فيما فيه يطمع، واليه ينزع،. . . فإذا بي أرى عندها مما تندى له الجباه، ما لا يصل الخيال إلى مداه! وما ظنك بنساء حول المقابر متبذلات، غير محتشمات، ولا مؤدبات؟ قد أخذن زخرفهن وازين بأفخر اللباس، ليبهرن عقول الناس؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>