للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[في عيد المعري]

للدكتور عبد الوهاب عزام

هذا قطار فلسطين، يحمل ذكرى البلاد التي نحبها، وييمم بنا مهوى أفئدتنا، ومثار أشواقنا من بلدان وجماعات طالما حننا إليها، وسعدنا برؤيتها، ورددنا الفكر بين ماضيها وحاضرها، ووجهنا العزائم والآمال إلى مستقبلها. وأن حز في نفوسنا الألم لها فأنه الألم الذي يحفز الهمم، ويمضي العزائم، ويعد العدد، ويجمع الكلمة، ويؤلف القلوب، ويؤكد الآمال

وهذه قناة السويس تسيل مع مائها العبر، ويجري التاريخ، ويزخر الحاضر بما عبرها من الجنود والخطوب. وليس هنا مجال الحديث عنها. ليس بها من جديد إلا جسر من حديد جمع عبريها ليمر القطار بركابه لا ينتقلون من قطار إلى آخر، ولا يشق عليهم العبور بأمتعتهم ليلاً على معديات القناة. ووقف القطار على القنطرة الشرقية وقفته لجوازات السفر وما يتصل بها.

ثم سار حين كاد ينتصف الليل في بيدائه، وعبرناها مضطجعين، تجيش بنا هموم لا تنام ولا تنيم. ولاحت فلسطين مع الضحى، والعين تتقرى ما يسر وما يسوء، والفكر يضرب في الماضي والحاضر، ثم يرى مستقبلاً تكفله القلوب المجتمعة والعزائم الموحدة

وبلغ القطار حيفا ظهراً متأخرا عن موعده ساعتين أو ثلاثا. ولم نتلبث بها إلا ريثما أعددنا لاستئناف السفر. وهذه سيارتنا تغور وتنجد، وتتوغل الجبال وتنحدر السفوح، وتقطع الأودية، وتقف عند حدود لم يخلقها الله، ولم يعرفها التاريخ ولم يقرها الحق ولم تقبلها الأوطان ولا الأوطان. . . فلنطو المسافات، ونقتحم العقبات، مسرعين إلى دمشق الجميلة الجليلة أدركنا الليل ونحن نغذ السير على مقربة من دار الأمويين فطمحت الأبصار، وهفت القلوب، وغشى الأنفس ما غشيها من جلال الذكر، ومن الاغتباط والابتهاج بالعود إلى المدينة التي ما دخلتها ولا خرجت منها ولا غبت عنها إلا محبا لها مشتاقاً إليها معجباً بها مفكرا فيها أملاً لها كثير الخير، داعياً لها بما هي أهله من الأمن والرخاء والمجد والعظمة. المدينة التي ما دخلتها ولا أقمت بها إلا منشرح الصدر، قرير العين، على رغم الخطوب والركوب، والتي قلت فيها وقد عاودت الشعر بعد طول العهد، من اجلها:

<<  <  ج:
ص:  >  >>