للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أولهما أنني قبل سفري رتبت كتبي في صندوق كبير وبغير وعي مني وضعت (المصحف) على قمة الكتب، ورأى والدي ذلك عرضا فسر سرورا لم اقصد اليه، ولربما جاء توفيق من الله. وحدث اخوتي عما رأى قائلا (إن أخاكم فلان سيكون الله دائما معه وسيوفق في كل ما يعمل) فسألوه (ولم ذلك) فأجاب (لأنني لاحظت انه وضع كتاب الله فوق كل كتاب) ثم أنني في يوم السفر فوجئت بهدية من والدي أوصاني أن احتفظ بها مدة غيبتي وان أعود بها إليه، وكانت تلك الهدية عبارة عن منديل للشيخ العالم النقشبندي الذي عاهده والدي على الهدى. ولقد أخذت المنديل واحتفظت به تسعة أعوام التي مكثها بأوربا وعدت وهو لا يزال إلى اليوم بين ملابسي. ولا أستطيع أن ازعم أنني قد علقت به أيمانا خاصا أو قوة معينة بل ولا فكرت في ذلك، ولكنه نوع من الاطمئنان السلبي المريح. وقد اختلطت في نفسي قيمة الهدية بمحبتي لمهديها وإيماني به، وكان لهذين الحادثين فضل دائم في ردى الإيمان كلما تجهمت لي الحياة.

ولقد اتخذ الإيمان في نفسي وجهة الإحسان إلى الغير، حتى لأحسب أنني عاجزاً عجزاً أصيلا عن بغض واحد، قد يقسو قلمي وقد يلذع لساني، ولكنني ما عدت إلى نفسي إلا أحسست بفيض من التسامح لا أستطيع دفعه. وأكبر ظني أن هذا الاتجاه كان أيضاً لا شعاع من والدي، وليسمح لي القراء أن أقص حادثا عائليا كان له في هذا الاتجاه أكبر الأثر كان لوالدي تسعة أخوة وكان يحبهم جميعاً حباً قلبياً صادقاً حتى لقد كان يذهلني عندما يموت أحدهم أن أراه هو الشيخ الكتوم لسره يبكي بدمع حار، وكان اصغر اخوته رجلاً كريماً متلافاً، وكان والدي يهتز في دخيلة نفسه لكرمه وان أحزنه إتلافه لماله، ولقد هدد هذا الإتلاف ثروته حتى أوشكت أن تضيع، وكان والدي يحرص على أن يستنفذ من تلك الثروة ما يستطيع، وحدث ذات يوم أن ألح الدائنون بالمطالبة وكان الوالد يستطيع عندئذ أن يسكتهم ببعض ماله الخاص ولقد فعل وكنت عندئذ في السابعة عشرة من عمري وكانت والدتي ككافة الأمهات تحرص على أن يستبقي الوالد أمواله لأبنائه، وكان أخي الأكبر يناصرها في الرأي فانتحى بي والدي في الليل ناحية واسر لي بنيته طالبا إلى أن اخفي الأمر عن والدتي وأخي. ولقد رأيت في هذه الحركة ثقة بي برغم حداثة سني أثرت في نفسي ابلغ الاثر، فتحمست منذ ذلك اليوم لعمل الخير وآمنت انه جزء من الإيمان حتى

<<  <  ج:
ص:  >  >>