للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

رجوع الإنسان إلى وعيه وانعتاقه من وحشيته التي لابسته طوال أربعة أعوام، حتى عقدت العزم على العودة إلى الشرق. عند سفري إلى أمريكا كان الأمل يحدوني، وقد افتر لي ثغره وابتسم، فصار حين عودتي منها إلى وطني يحدوني الشوق والفرح، فهل ينضحاني يا ترى بأنداء السعادة؟ كنت في الذهاب استحث الباخرة لتصل بي إلى ميدان الجهاد والعمل، وقد توسلت إليها في الإياب أن تسرع السير لأصل إلى مقام الحبيبة، مقر الوالدين، فهل يلازمني الحظ في هذه المرة أيضاً؟ كان دنو الباخرة من الشرق ينسل خيوطاً من غشاوات غالطت نفسي في تبين ما وراءها، ويلقيني في غبش صبح يتنفس الريب والشكوك، وكثيراً ما كنت أستيقظ من أحلامي، وانفض صور الذعر واطرد الخيالات المرعبة، ولكنني كنت أتجلد وأبتسم!. كل شيء في ميناء الوطن باق على ما كان عليه، إلا مظاهر مجلوبة، ورطانة مقتبسة، يممت المدينة، لم ألتفت إلى همة ناشطة في حركة البناء والتعمير، بل شقت سيارتي طريقها إلى الجبل. صدمتني مشاهد بيوت خربة وقرى مهجورة، أما قريتنا (كفر شيما) مسكن الحبيبة أنيسة فقد كانت مثالاً بارزاً للأطلال الدارسة. أين أبي وأمي؟ أين أنيسة؟ أسأل الجار ولا جار، وسألت الناس وإذا بهم غير الناس. جبت الدساكر المتناثرة حول القرية. لجأت إلى دير (القرقفة) إلى القساوسة، استعنت بالعجائز على التعرف على أهلي وأقربائي ففزت منهم بفيض من الأخبار المرتجلة والأكاذيب المفتعلة، والحيرة الكبرى!؟ ذهبت إلى مدينة (زحلة) أسال عن أمي وأبي فقيل لي: إنهما رحلا عن المدينة منذ سافرت! قد يكون الموت اخترم والدي الشيخين، ولكن أنيسة، الريانة الشباب، الغريضة الصبا، هل يقوي الموت اللعين على أن يمد لها يداً؟ هذا محال بل المحال هو هذا! نهض من مكانه يتمشى بخطوات واسعة، ولما عاد إلى مجلسه كنت أتخيل إمارات الهلع ترتسم على محياه فتحل عقدة صبره، وإذا بجبينه تعلوه مسحة من أمل. فقال بصوت حازم: لا يستنيم الأمل في نفسي ولا يهجع. سأترصد الرجاء وأقاوم شبهات اليأس، وأجد أنيسة. سأجدها لأني أرى بصيصاً من روحها يشع في أعماق نفسي، وأصغي إلى هاتف روحها يدعوني، إذن سأجدها. استعادتني أشغالي المتعطلة إلى أمريكا. . . استغرقتني الأعمال أو كادت تنحرف بي عن اتجاه بصيص أمل كنت أتطلع إليه. كان خيال (أنيسة) يلازمني دائماً، في الفراغ وفي العمل، ولم اكن أذكر والدي

<<  <  ج:
ص:  >  >>