للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المسكينين إلا قليلاً، أستنزل عليهما الرحمة أو أكلف قسيساً إقامة الصلاة على روحيهما. لم يكن نداء أنيسة آتياً من وراء المجهول، بل كنت أسمعها وأراها وأحس بها تتقلب على اذرع الوجود! هل تزوجت؟ أشقية هي؟! وفي يوم من أيام ربيع عام ١٩٣٧ لج بي لاعج خفي فنازعتني نفسي ودفعت بي - على الرغم مني - إلى العودة إلى الوطن أعيد الكرة في الاستقصاء والاستخبار. لم أمهل عقلي ليهديني إلى الممكنات ويريني المستحيلات، بل لبيت الهاتف الخفي وعدت إلى لبنان. وفي صبيحة يوم بينما كنت أصعد الجبل إلى كروم العنب والتين، إذا بي ألقى فتاة تحمل سلة على كتفيها مغطاة بورق الدوالي. نظرت إليها فإذا بها وضاحة المحيا، ساجية الطرف، مليحة المعارف. استوقفتها فأجفلت. لمحت في عينيها نور نفس أنيسة. صرخت على الرغم مني: أنيسة، أنت أنيسة.؟!

وقفت الفتاة مبهوتة تجيل نظرة حيري من عينين عقيقيتين مغرورقتين بدموع وقالت: لست أنيسة يا سيدي، بل اسمي أنا يمنى، أسمي يمنى.

يمنى! يمنى من! أين أمك ومن هو أبوك؟

ألقيت أسئلتي بنبرات سريعة جافة كادت تربك الفتاة، ولكني استدركت الأمر بتهدئة اضطرابي فتعمدت الابتسام لأدخل الطمأنينة على نفسها، فقلت هل لك أن تحدثيني عن والدتك وأين هي الآن؟ قالت بصوت مختنق: تعيش أنت يا سيدي! لقد ماتت أمي ومات أبي من زمن بعيد. قلت: أتذكرين صورة أمك وما وصفها؟ قالت مات والدي قبل اكتمال وعيي، وكل ما أعرفه عن أمي أنها ماتت نفساء وأنها تدعى أنيسة الخشناوي، أما أبي فارمني لا يحسن أحد نطق اسمه. واستطردت كأنها أحست تشوقي إلى الاستطلاع فقالت: إن عائلة بطرس بك قد ضمتني إليها، وقد نشأت واستيقظت نفسي بين أولاده وخدامه.

كادت عبارتها في وصف يقظة نفسها تشغلني من غرضي وقد أحسست بعاملين قويين وثبا علي وأغارا على مشاعري: عامل الأمل، وقد تحقق بلقيا هذه الفتاة التي لاشك أنها ابنة أنيسة، وعامل نفساني يماثل يقظة الحب التي استيقظت حين رأيت أمها إلى جانب والدتي ساعة الوداع في الهجرة الأولى. رافقتها إلى بيت مخدومها، وإذ كنا في الطريق كنت ألمح فيها الطمأنينة الطفل إلى جوار أمه، وكانت الأفكار، والصور، والتخيلات، ومرائي الماضي والحاضر والمستقبل تتعاقب على ذهني فتزدحم فيه وتكتظ. طلبت من بطرس بك

<<  <  ج:
ص:  >  >>