للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لفظ رودان هذه الكلمات بصوت ملؤه الخشوع العميق. ولا ريب أن في ذلك ما يشعرك بأن جسم الفتاة الأبيض البض هو أسمى وأروع المخلوعات في نظره. بل هو أعجوبة الأعاجيب! ثم وصل حديثه قائلا: (سألت أولئك الأوغاد الأنذال أن لا يبددوا الأنقاض وأن يبيعونيها فرضوا. ثم أمرت بالأحجار فأحضرت إلى هنا وشددت بعضها إلى بعض على أحسن ما استطعت. ولسوء الحظ لم أرفع إلا حائطا واحداً إلى الآن كما ترى).

ولتعجله وشدة تلهفه على الاستمتاع بذلك الأثر الفني البديع لم يتبع رودان الطريقة المثلى التي تقضي بأن تقوم حوائط البناء جميعها في وقت معا. وللآن لم يبن إلا جانبا واحداً من القصر. وإذا ما قاربت بابه الحديدي ونظرت من خلاله رأيت أرضا مخطوطة مشقوقة بها قطع من الأحجار تدلك على تصميم البناء المنتظر. حقا إنه قصر أحلام بل وقصر فنان! ثم غمغم مضيفي قائلا: (حقا لقد كان بناؤونا القدماء رجالا عظماء لا سيما عندما نقارنهم بخلفائهم من بنائي اليوم الذين لا يستأهلون شيئا.) قال ذلك ثم قادني إلى طرف من أطراف الشرفة حيث يظهر له جمال الوجهة بأجلى مظهر وصاح قائلا: (انظر كيف يعترض طيفه السماء الفضية بانسجام عظيم، وكيف يشرف على الوادي الذي يمتد من تحتنا.) ثم ذهل برهة وانتظم بصره المشغوف أثناءها ذلك الأثر القديم وما يترامى حوله من المناظر.

وترامت أبصارنا من المرتفع الذي كنا عليه إلى آفاق بعيدة، فهناك نهر السين تنعكس على صفحته البلورية سطور طويلة من ظلال أشجار الحور، يتخذ شكل عروة عظيمة من الفضة عند ما يتدافع إلى القنطرة عند سفر وتلي ذلك منارة سانت كلو البيضاء الصاعدة في الجو أمام تل أخضر. وأما مرتفعات سورسن الزرقاء وجبل فاليريان فكانت تبدو كأنها ذرت بهباء من الأحلام. والى اليمين من ذلك ترى باريس - باريس الهائلة - تمد مهادها إلى الأفق البعيد وقد نضد بمنازل عديدة تبدو صغيرة على البعد حتى ليخيل للرائي أن في استطاعته أن يستجمعها بكفه، باريس التي تبدو لأول وهلة عظمية سامية كأنها بوتقة هائلة تفور وتجيش بذلك المزيج العجيب من اللذات والآلام، وبالقوى الزاخرة وبالمثل العليا الموموقة.

محمد بهجت

<<  <  ج:
ص:  >  >>