للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

مع الرشيد وكان قلبها معلقاً ببغداد فأظهرت لأخيها شوقها في شعرها فأنشدته:

ومغترب بالمرج يتكي لشجوه ... وقد غاب عنه المسعدون عن الحب

إذا ما أتاه الركب من نحو أرضه ... تنشق يستشفى برائحة الركب

فأمرها الرشيد أن تعود إلى دار أنسها ومرحها.

وكان الناس يتقدمون إليها لتساعدهم في قضاء حوائجهم عند الرشيد، شفاعتها عنده مقبولة، وكلمتها لا ترد، وقاصدها لا يخيب، وكيف يردها وهي تخاطبه بلسان الشوق وتعبر له بأعذب الألحان.

أما تعلق (زبيدة) زوج الرشيد بالأميرة علية فكان لا يقل عن الرشيد بها. تشكو لها كل هم يصيبها وتطلعها على سرها وتستشيرها وتسترشد برأيها الصائب - كما كانت تبث لها شكواها إذا ما رأت جفوة أو إعراضاً من أمير المؤمنين وتستعين بها عليه.

أهدي للرشيد جارية في غاية الحسن. والجمال وعلى جانب من العلم والأدب فأعجب بها الرشيد وقدمها على جواريه. ثم تعدى الأمر إلى أعظم من هذا حيث قدمها على زبيدة، شق الأمر على زبيدة، فقد أفلت (هرون) من يدها، وظهر لها ضرة نافستها وتقدمت عليها - وداء الضرائر معروف وجد مع تعدد الزوجات فلا يغيظ المرأة أحد بقدر ضرتها (فالضرة مرة ولو كانت جرة) ولكن ما العمل والجارية قد احتلت مكان زبيدة وملأ حبها قلب هرون.

كتبت زبيدة إلى بنت عمها تستزيدها، ولما حضرت عندها عرضت عليها أمرها وشكت ما تقاسيه من مرارة العيش منذ وجدت هذه الضرة وطلبت معونتها فقالت علية: (لا يهولنك هذا الأمر والله لأردنه إليك).

نظمت عُليةُ أبياتاً. وصاغت فيها لحناً وجمعت جواريها وجواري زبيدة عندها وأمرتهن أن يلبسن أفخر ثيابهن ويأخذن أجمل حلاهن، وكلت رؤوسهن بالأزهار والرياحين، وعطرتهن بالطيب والغالية، وطرحت عليهن اللحن حتى أتقنه. انتشر الجواري بين أشجار جنائن الخلد وأزهارها، ولما كان وقت العصر خرج الرشيد للصلاة في مسجد قصر الخلافة، وما كاد يتوسط القصر حتى باغته الجواري وكأنهن حوريات أفلتن من الجنة، بأيديهن المعازف يتقدمهن عُلية وزبيدة، وهن يرددن بصوت واحد:

منفصل عني وما قلبي عنه منفصل ... يا قاطعي قل لي: لمن نويت غيري أن تصل؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>