للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وما أعجب أن تنظر إلى وجوه الناس ورءوسهم! إنها صفحات يبدو للناظر العجلان أنها سطحية ضحلة. ولكنها للناظر المتملي المتفرس تقذف به إلى لا نهائية ذات أعماق. والعيون هي مسالك تلك الأعماق!

وكذلك يثير وجه كل فرد وعقله صورة من صور الدنيا. وكل فرد كأنه الحياة كلها مستقلة. حتى ليخيل إليك أن الدنيا الإنسانية تنقص بموت فرد واحد، وأن مكانه لا يملؤه غيره سواه علا أم سفل، علم أم جهل. فتوزيع الدنيا على الأشخاص، وتوزيع الأشخاص على الدنيا يعطي صورة فنية أو حبكة مسرحية يحشد فيها الفن الرفيع والإخراج البديع.

ولذلك قالت التوراة والقرآن: (أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً. . .)

ومن هنا جاءت قداسة الحياة الفردية في الشرائع، واستنكر الاعتداء عليها استنكاراً إجماعياً. وقد أعطت الإنسانية الفرد حرية تخيلتها لنفسها واستوحتها من إحساسها العام وضميرها المشترك.

والإنسانية كجسم شجرة واحدة، فيها جذور لا بد أن تعيش في الطين والظلام والعفونة لتحلل غذاءها وتأخذه عناصر بسيطة تركب منه ما تشاء من اللباب والقشور والأزهار والثمار والعطور إلى آخر ما في عالم الأشجار.

وفيها سيقان لا بد منها لتحمل غيرها وترفعه إلى عالم الجو والضوء والنسمات.

وفيها أوراق تبلغ من الكثرة حداً كبيراً يرتفع إلى مستوى الزينة ويشترك في صميم العمل الضروري لحياة الشجرة، لأنها رئات يتنفس بها الشجر.

وفيها أزهار وهبها واهب الحياة العطر والجمال، وأخرج فيها روحاً خاصاً يخيل للناس أنها ليست من عالم الطين والعفونة والتحلل والظلام.

وفيها ثمرات هي صناديق أسرار الشجرة ومستودع حياتها المقبلة. وهي روح الشجرة تحمل سر نوعها من الماضي للمستقبل.

ولا مفر من اعتراف كل جزء من الشجرة بكل جزء آخر لتحيا جميعها. ولا بد أن يعلم كل جزء أنه وضع في موضعه الرفيع أو الوضيع ليخدم نفسه ويخدم الجميع. والسفالة في الموضع أو العلو فيه، والعلانية أو الخفاء كلها نظرات اعتبارية في الظاهر، والحقيقة أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>