للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

عن مذاهبه الأنهار، وجفت على جوانبه الروافد، عاد كالبحيرة المحدودة لا يمدها إلا قطرات المطر ودفعات السيل حيناً بعد حين. فالقارئ العربي الحديث لا يجد فيما أثر منه ولا في أكثر ما استجد فيه غذاء عقله ولا رضا شعوره؛ لأن المأثور منه ناقص لانقطاعه عن سير المدنية، والجديد منه ناقص لخلوه من الآداب الأجنبية. والغريب المخجل أن المرء يقرأ أي نابغة من نوابغ العالم في أي لغة من لغات التمدن إلا في اللغة العربية! فالتركي مثلاً يستطيع أن يقرأ في لغته هوجو كله، وشكسبير كله، وجيته كله؛ ولكن العربي لا يجد في لغته لهؤلاء العباقرة العالميين إلا كتاباً أو كتابين اختارهما مترجم على ذوقه ونشرهما على حسابه!

فإذا أردنا يا معالي الوزير لأدبنا أن يتسع في حاضره كما اتسع في ماضيه، فليس لنا اليوم غير سبيل الأمس: نرفده بآداب الأمم الأوربية، ونصله بتيار الأفكار الحديثة؛ فإن لكل أمة مزايا، ولكل بيئة خصائص. ولن يكون أدبنا عالمياً ما لم يلقح بآداب العالم؛ والمحاكاة والاحتذاء من أقوى العوالم أثراً في الأدب.

والأدب العربي قاصر في بيانه، لأنه مقطوع الصلة بحضارة العصر، فلا يستطيع أقدر كتابنا أن يتحدث عما يستعمل من ماعون وأثاث، ولا أن يصف ما يركب من باخرة أو طائرة، ومجمعنا اللغوي على ما نرى من نشاه لن يقدم إلى الناس معجمه المنتظر إلا بعد جيل أو جيلين، حين يكون كل شيء في العالم قد تغير أو تطور، فيصبح معجمه في الجدة يومئذ كمعجم (لسان العرب) اليوم! والزمان يا معالي الوزير يسرع، والعالم كله يجد، والساري على مركب العجز لا يلحق، والبيان قاصر لصف الخرس، واللغة الناقصة ثلاثة أرباع الجهل.

وما قلناه في اللغة والأدب تقوله في العلم والفن؛ فإن ما في العربية منهما لا يعدو في الغالب أن يكون ملخصات مجهولة النسب، أو مقتبسات قليلة الغناء، إذا نفعت أحداً فإنما تنفع طلاب المدارس. أما الشعب الظامئ إلى المعرفة فلا يجد بين يديه من أمهات الكتب العلمية والفنية ما ينفع غليله ويسد عوزه. وما دام المر كذلك فسيظل اللسان العربي والعقل العربي محصورين في حدود القرون الوسطى لا يواكبان ركب الحياة، ولا يسايران تقدم الفكر.

<<  <  ج:
ص:  >  >>