للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المغيرة، فقال لهما وقد دنا منهما: أيحق لكما أن تسبقا الناس في الدنيا حتى إذا كانت الآخرة كنتما آخر الناس عند الله؟، الله ما لكما في آلهتكم غناء، وما كنتما لتجعلا رضى الشيطان في عصيان الله. ولكن أبا جهل لم يكن ليصبر كما صبر العباس، أو يسكت كما سكت، ونما جادل النبي في عنف، فجادله النبي في لين، وآثر أبو جهل الحدة، ولم يكن النبي ليتحد. واتجه الرسول إلى القوم جاداً في دعوتهم، ملحاً في اقناعهم، يمنعهم بالوعود يوم الدين، ويحذرهم عاقبة الكفر يوم القامة، وأخذ النبي يفيض عليهم من بيانه، ويشع على القوم قبساً من إيمانه، حتى أقبل الكل عليه يستمعون له ويصغون إليه، وبينما النبي يدعوهم فينصرف إلى الدعوة بكل إيمانه، كان يسعى إليه رجل يتوكأ على عصاه يتحسس بها الطريق إليه حتى إذا بلغ مجلس النبي لم يستمع إليه ولم يلق بالا إلى قوله، ولم يدر أن النبي يدعو صناديد قريش إلى ما دعا الله، ونما بادر النبي يسأله أن أيقرئني وعلمني مما علمك الله؛ وكان النبي عنه في شغل، وكان ضيوف النبي قد تلهوا عنه بما هم فيه، فلم يلتفت إليه أحد، ولم يرد عليه مجيب؛ فقال أقرئني وعلمني مما علمك الله، فلم يكن حظه في الثانية خيراً منه في الأولى، والرجل واقف في مكانه لا يريم، ملح في طلبه لا يسأم، فأخذ يعيده، وطفق يكرره، حتى كره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع عليه الحديث، وأي حديث، أو يلقى عليه قول ولما ينتبه من قوله، فعبس في وجه الرجل وأعرض عنه، ولم يلبث النبي أن انصرف القوم من عنده، فيهم الذي أوشك أن يقتنع، وفيهم الذي مازال متبرماً بالدعوة ساخطاً، وفيهم الذي ينكر على الرسول قوله، وفيهم الذي يحب أن يتريث في الأمر فلا يقطع فيه برأي؛ وكان النبي قد ظن انه بالغ منهم في يومه ما لم يبلغه في أمسه، وانه لابد اليوم مقنعهم حتى يسلموا، فلم يدر بعد ذهابهم ماذا اخذ عليه نفسه وقد كانت معه وله؟ ولا كيف ضاق صدره وقد كان واسعاً لا يضيق بشيء ولا يتبرم بسوء؟ وشعر النبي بحرج لم يدر ما هو ولا من أين اتاه، فقد كان عند أمر ربه يؤدي الرسالة في صدق وأمانه، لم يدع سبيلاً لهداية القوم إلا سلكها، أو باباً إلى قلوبهم الغليظة إلا طرقه؛ ولم يلبث النبي إذ خلا لنفسه أن أحس بما يحس به حين يريد الله أن يبعث إليه بحديث أو ينزل عليه شيئاً من آية، وإذا الوحي له لا للمسلمين، وإذا القول له لا للمشركين، وإذا الله عاتب عليه يقول انه: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى) ويقول له (وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى،

<<  <  ج:
ص:  >  >>