للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[عرب فرنسا]

للأستاذ عمر الدسوقي

عطبت سيارتنا، ونحن نصعد في الجبل صوب قرية من قرى لبنان، وكان عطبها إزاء كوخ مشرف على الطريق، أطلت منه عجوز نالت منها السنون حتى تركتها أثراً متهدماً لإنسان: درداء، شمطاء، عجفاء، معروقة اليدين، مخددة الوجه، محدودبة الظهر. وكأنما راعها أن تقف سيارة فخمة بباب كوخها المتهدم المتواضع الذي يحاكيها قدماً، ويجانسها ضعفاً، ويماثلها قماءة، فأخذت تجيل فينا بصراً لا يزال حديداً، لم يبل كما بلى جسمها، ولم يرث كما رثت منتها، يتطلع إلينا في لهفة وعجب، كأننا من عالم آخر لم يره من قبل.

فقال صاحبي يداعبها: صبحت بالخير يا خالة. من أي العرب أنت؟، فأجابت بلهجة جبلية قحة، وبصوت خشن، استعار غلظته من هذه الصخور الجاسية التي تحيط بها: (إني من عرب فرنسا). فقال صاحبي دهشاً: (وي! وهل لفرنسا عرب؟) فتلعثمت العجوز، وحارت ثم أجابت: (إننا لا نعرف غيرها حاكماً على هذه الديار. قد بسطت ألويتها على السهول والحزون، وتغلغلت لغتها في القرى والدساكر، والبيوت والمتاجر، ينطق بها الصغير والكبير، ويزهى بالتشدق بها الحقير والأمير؛ قد طبعت بلادنا بطابعها، وتدخلت في الهين والجليل وملكت أزمة المال والرجال. وإني في وكري هذا لأحس بأسها وسطوتها فهل حدت عن الحادة إذا قلت: إني من عرب فرنسا؟

ولم يطل صاحبي معها الحديث لنستشف خبيئة نفسها، ونعرف أمتهكمة هي أم جادة، وفرحة بهذا الوضع أم ترحة؟ فقد جأرت السيارة مستأنفة فهرولنا إليها مشيرين إلى العجوز مودعين. وما أن استقر بنا المقام في السيارة حتى التفت إلي صاحبي وقال: (ما رأيك بما سمعت؟) فقلت: (نكراً والله، إن كانت هذه العجوز جادة تقرر حقيقة قد سلمت بها، واعتقدتها من قبلها فذلك برهان لا مرية فيه على أن فرنسا نجحت في هذه الديار نجاحاً نفذ إلى ألباب العجائز في الجبال. أما أن كانت متهكمة فهذا دليل اليقظة الروحية، والإيمان الكامن في هذه القرى النائية عن العمران، وحجة على أن هذا الجبل الأشم أشد بأساً وأقوى مراساً من أن يلين لزبرج الحضارة المموهة، وأساليب الاستعمار الخادعة.

فقال: لعلها تقرر الحقيقة من وجهة نظر فرنسا، فإنها تعمل جادة على أن تسلخ هذه

<<  <  ج:
ص:  >  >>