للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تفرض عليه إنما يراد بها رفع مستواه العلمي والخلقي، ومدارس التبشير ليست إلا لهدايته سواء السبيل. . . ولكنه في الواقع والحقيقة انتقاص شائن من حرية من يسلم به، واعتداء على كرامته واستقلاله، واعتراف منه بأنه ليس لهذا الاستقلال أهلا.

ومن غرائب الصدف أن لغة السياسة من نصائح مسداة، وآراء مبذولة، وامتيازات مطلوبة، لا تتخذ هذا المعنى (الرفيع) الخاص إلا إذا جرت على لسان قوي وتحدث بها إلى ضعيف أو إلى من يظن فيه الضعف. فالدول الكبرى في مؤتمر (سان فرنسيسكو) تنصح عملياً للدول الصغرى بأن تقلل من شطحاتها وبأن تتعلم الطاعة وتستسلم صاغرة لما يراد بها، ولكن إذا ما جد خلاف بين بعضها هي وبين بعض كانت لغة التوفيق ذات معان أخر وذات أسلوب آخر.

والسياسي الماهر هو الذي يقف من خصمه موقف مفسر الأحلام الذي استدعاه أحد الملوك ليفسر له حلماً أفزعه. وعلم المفسر أن قد سبقه في هذا المضمار آخرون قربت المقصلة آخرتهم؛ لأنهم أخبروا الملك أن جميع أفراد أسرته سيموتون قبله وسيموت هو بعد ذلك. فلما أحضره الملك بين يديه وسأله عن تعبير رؤياه أجابه: ستكون أطول أفراد أسرتك عمراً.

و (الدبلوماسي) البارع هو الذي لا يضع السيف في موضع الندى، والذي يصل بمعسول ألفاظه إلى ما لم تصل إليه القنابل الطائرة.

لما أخفت الحملة الفرنسية على (مصر) وخشي (نابليون) أن يكون في رحيل جنوده عن (وادي النيل) ما يذهب بالأثر الثقافي والعلمي الذي تركته بحث عن رجل يمثل (فرنسا) في (مصر) وتكون رسالته (أن يحافظ على النفوذ الفرنسي رغم الهزيمة، وأن يؤسس بالطرق (الدبلوماسية) ما عجزت الأسلحة عن تشييده) فوقع اختياره على (متيو دليسبس) وكانت وصية (تلليران) له وهو يودعه: (أتخذ لنفسك صديقاً: رجلاً من بين خصومنا، وسيكون في صداقتك له ما يجعل منه واحداً منا) - وكلنا يذكر ما كان لصداقة هذا (الدبلوماسي) لمحمد علي بنيه من الأثر الكبير في نجاح مشروع فتح (قناة السويس).

ولقد أدخل القرن العشرين في معجم السياسة كثيرا ًمن الألفاظ التي غيرت من مدلولها، وأضاف مؤتمر (سان فرنسيسكو) إليه مصطلحات جديدة. فبعد أن كنا لا نسمع إلا ألفاظ

<<  <  ج:
ص:  >  >>