للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

التدقيق في تحقيق هذه التسوية مبلغا لا غاية وراءه، فاقترن في هذه المسألة العلم بالعمل، وحقق القضاة ما دون الفقهاء، فافتحوا اقرب كتاب فقه إليكم تروا ماذا دونوا. . .

وقف بين يدي المأمون وهو في مجلس المظالم رجل يتظلم منه نفسه، فترادا الكلام ساعة فما اتفقا، قال المأمون: فمن يحكم بيننا؟ قال: الحاكم الذي أقمته لرعيتك يحيى بن أكثم، فدعا به المأمون فقال له: أقض بيننا؛ قال: في حكم وقضية (أي في دعوى)؟ قال: نعم؛ قال القاضي: لا أفعل. فعجب المأمون وقال: لماذا؟ قال يحيى: لأن أمير المؤمنين لم يجعل داره مجلس قضاء، فإن كنت له دعوى فليأت مجلس الحكم (أي المحكمة)؛ قال المأمون: قد جعلت داري مجلسا للقضاء. قال: إذن فأني أبدأً بالعامة ليصح مجلس القضاء (وتكون المحاكمة علنية)؛ قال المأمون: افعل؛ ففتح الباب، وقعد في ناحية من الدار، وإذن للعامة، ونادى المحضر، وأخذت الرقاع (أوراق الدعوة والإعلان)، ودعي الخصوم على ترتيبهم حتى جاءت النوبة إلى المتظلم من المأمون، فقال له القاضي: ما تقول؟ قال: أقول أن تدعو بخصمي أمير المؤمنين المأمون. فنادى المحضر: (عبد الله المأمون)! فإذا المأمون قد خرج في رداء وقميص وسراويل في نعل رقيق ومعه غلام يحمل مصلى حتى وقف على يحيى، ويحيى جالس، فقال للمأمون: اجلس! فطرح الغلام المصلى ليقعد عليه، فمنعه القاضي حتى جاء بمصلى مثله، فبسط للخصم وجلس عليه، والقصة طويلة عجيبة، تتمتها أعجب من فاتحتها، فاقرؤوها في (المحاسن والمساوئ) للبيهقي، الجزء الثاني الصفحة ١٥١، وأنكم لتحارون بعد مم تعجبون: من جرأة الرجل، أو من صلابة القاضي، أو من أخلاق المأمون!

ومن قبله غضب علي - كما قيل - حين كانت له دعوى مع اليهودي، لأن القاضي ناداه: يا أبا الحسن، ودعا اليهودي باسمه، فرأى في ذلك تعظيما له وإخلالا بالمساواة بين الخصوم، والله اعلم بصحة ما قيل. ونزل ضيف يخبر بن نعيم قاضي مصر فأطعمه وأكرمه، ثم علم أن له خصومة لديه، فتركه في الدار، وذهب يفتش عن خصمه حتى جاء به فأجلسه معه على المائدة. وقد حدثني عمي القاضي النزيه صلاح الدين الخطيب عن عمه قاضي يافا في زمانه العالم الجريء المشهور صاحب النوادر الشيخ أبي النصر الخطيب بمثل هذه القصة. . . وما كان الخير لينقطع في أمة محمد إلى يوم القيامة!

هذا قضاؤنا، فهل أسمعتم أن قضاء أسرع في إحقاق الحق منه، وابعد عن التعقيد والالتواء

<<  <  ج:
ص:  >  >>