للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

هو ذنب من حمله! فأنت تستطيع أن تنقم عليهم، وتستطيع أن تكيل لهم أشنع النعوت والصفات ولكنك، مضطر إلى أن تقف في محراب العلم خاشعاً متصدعاً، تتلو آي الحمد والإجلال، وترتل أناشيد الحب والإعجاب!!

أو لعل الذي يقول بتجفيف العلم للقلب إنما يزن الحقائق التي اجتلاها الإنسان خلال هذه العصور الطويلة، فوجدها ضئيلة هزيلة لا تعدل ما بذل في سبيلها من جهود. . وهذا صحيح أيضاً، فالحقيقة لا تطفو على ظاهر الأشياء ولا تستبين بارزة عارية وإنما هي خيال ما يكاد يتراءى للعين والبصيرة حتى يختفى، ولقد يضطر العالم إلى اللحاق به فيعدو ويعدو ثم يعود في الأعم من الأحوال خاسراً خائباً. فتحري الحقيقة عمل شاق مضن، ولذا اشترط على العالم الصبر والأناة والجلد. على أن ما علمناه يزيد في ثراء خزانة المعارف، ويهيب إلى القول أن الإنسان الحاضر أرقى من الإنسان الأول، واكثر منه كمالاً. أقول كمالاً ولا أقول سعادة، لأن السعادة غير منوطة بالعلم أو ناتجة عنه، ولعلها بالجهل أجدر واليق، ولعل العلم يبعث القلق والاضطراب، ويثير أحلام النفس لغافية ووساوسها الكامنة.

اكتشاف الحقيقة لا يتم إلا بالخيال والعاطفة، وهما أهم مقومات الشعر والأدب، يتخذهما العلم في البداءة جناحاً يطير به، ووسيلة يلجأ إليها، فهما أداتان لا غنىله عنهما، أفيستطيع العالم تبيان مجاهل الكون إلا بالتخيل والتصور، يرسم حدودها وأشكالها على صحيفة مخيلته قبل أن يعرفها بالواقع والمحسوس؟ أفلم تكن العاطفة والرغبة حافزاً للمعرفة وداعياً إلى الإحاطة بها؟. . ومع أن العلماء حددوا مدى الخيال، وألزموا الحس بالبرهان فلقد راضوهما كثيراً واستنهضوهماً كثيراً.

فالمعهود أن ملكة التخيل والفرض قوية نامية عند العلماء والمفكرين، والمعهود أن كبار الأدباء كانوا علماء أو مثقفين ثقافة علمية متينة واسعة. فهذا جيتي الأديب العبقري كان عالماً من علماء القرن الثامن عشر، له في النبات نظرية (التحور) وله في طبقات الأرض والأحجار الكريمة آراء محترمة، يعتقد ببساطة النور ويقول إن جمجمة الرأس إنما هي حلقة من حلقات العمود الفقري تطورت ونمت فصارت إلى ما هي عليه الآن من التجسم والضخامة. أما بساطة النور فلا يؤمن بها أحد من العلماء اليوم، وأما نظرية الجمجمة فلا تتلاءم مع علم الرشيم الحديث فعدل عنها، وان شئت فقل أنها تحورت إلى نظرية أخرى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>