للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد

فقد أطمع هذا التفرق العدو حتى أقدم على هذه الدويلات، فذلت له كلها وخضعت، ورضخت له بالإتاوة، وكان الأعداء هم يؤدونها عن يد وهم صاغرون، وما ينبغي للمسلمين إلا دولة واحدة عليها أمير واحد، وما جزيرة (الأندلس) إلا ولاية في دولة المسلمين. . .

بذلك أضرم أمير المسلمين الحماسة في صدور قواه وجنده من البربر، فأقبلوا يطوون المراحل شوقاً إلى حرب هذا الذي فرق جماعة المسلمين وأطمح العدو فيهم، (المعتمد) الذي كان بالأمس الداني صديقهم وحليفهم وكان مُضيفَهم، وكانوا يتغنون بما رأوا من عجيب الكرم وما أوتيه من بارع الخلال.

ثم أن هؤلاء الأجناد الذين كان بعث بهم أمير المسلمين ليكونوا في ثغور الأندلس جنداً للمعتمد وعوناً له على عدوه وعدو الإسلام: الأسبان، واختارهم - لغرض يريده - من فرسان المرابطين، وأهل الشدة والنجدة فيهم، هؤلاء الفرسان قد تركوا بالأمس ثغورهم لما بلغهم زحف أميرهم، وأقبلوا على حرب الملك العربي النبيل يؤثرونها على مواقعة الأسبان ومروا يطحنون في طريقهم الأرباط والقرى، ويأخذونها أخذ الفجاءة، ويدعسون مآثر العمران ويحطمون الجنان، وجابوا في هذه الكرة الجائرة أودية كانت تميس بغلائل الربيع، ورباً حالية بالزهر، وضياعاً عامره ممرغة، فتركوها من ورائهم قاعاً صفصفاً وخلوها بلاقع، فكأنما مرت عليها ريح سَموم محرقة لا تبقي ولا تذر!

وكانت ثالثة الأثافي، هذه الثورة التي قدح زنادها، ونفخ فيها دعاة الخصم المغير ومن شرى ضمائرهم بماله، فكادت تجعل على المعتمد، اشبيلية دارة ملكه ناراً، ولكن الله أمكنه منها فأطفأها قبل أن تضري، وحكمه في مجرميها، فأبى له نبل محتده، وكرم طبعه، إلا العفو عنهم عفو القادر المتمكن، وحباءهم حباء الجواد المحسن!

لم يحفل الملك وقطان قصره هذه الرزايا، وعادوا منها بما عودتهم الأيام من غلبة الجد وتمام السعد، وظنوها في جنب ما ألفوا من الخفض وعرفوا من اللين كالخال الأسود في وجه الغانية الغيداء، لا يجئ ليسوده ولكن ليتم جمال بياضه. والخدر يعرف الصحيح قيمة صحته، وسحابة الصيف لا تغيم حتى تنقشع. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>