للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

القلق المعنوي، أسست تجارة، وبنيت أسرة، وتطورت ميولي الوطنية فصارت أِشبه بميول المشتاق لحبيب بعيد، واستوطنت مصر.

قال أحدهم يذكر صديقه بموقعة مع الفرنسيين وقعت لهما (برأس بعلبك)، وذكر آخر حادثة ثانية وقعت له يوم ثورة (حماه)، وذكر هذا واقعة جبال العلويين، وذاك حادثة (القنيطرة) وأخذوا يذكرون حوادث لثورات أشعلوها على الاستعمار الفرنسي.

قلت وقد كفوا عن اللغط: حقاً يا إخواني إن ذكرياتكم سجل لتاريخ حقبة من حياة سورية، وإن هاتيكم الذكريات ستبقى مكتومة في الصدور، أو مبعثرة على ألسنة الرواة، حتى تصادف مؤرخا غير مأجور على تلفيق تاريخ لسورية، والآن وقد جمعتنا المصادفة، هل لكم أن تذكروا أروع حادث وقع لكم في جهادكم وأخطر موقف وقفتموه؟

لم يدم صمتهم طويلا، فقد انبرى واحد منهم وقال:

- ٢ -

لست أحسن التنميق ولا التزويق، إنما أقص الواقعة كما وقعت: أخذنا الأعداء على غرة، كانت أجنادهم في ذلك النهار عديدة، وكانوا لوفرتهم وتراصهم هدفاً لطلقات من بنادقنا لا تخطيء ولا تطيش. أخذتنا نشوة الإمعان في التقتيل، وعلى الأخص حين رأينا طرائدنا تتلوى وتتساقط. كنا نسرف في إطلاق الرصاص ونرمى رمى الواثق المطئمن، ولكني فطنت إلى نفاد ذخيرتى، وكانت صناديق الذخيرة يحملها إلينا في متاريسنا فتيان كتموا حماستهم من شدة سرورهم بالقتال والنصر. أخذت الشمس تزول وتنحدر، ولم أفطن إلى عطش أو جوع، وإنما فطنت إلى نفاد ذخيرتي، ولما التفت إلى زميل كان إلى جانبي لأستعير منه طلقات لبندقيتي، لقيته في حالة من التوتر والانفعال يعبر عنها بزغردات الظافر الناجي، ولكن نشوة الظفر تلك لم تطل إذ افتقد جعبة (الخرطوش) فإذا بجيوبه فارغة، فالتفت يطلب النجدة منى، ولم نلبث أن سمعنا خطوات إخواننا تقترب منا تطلب قذائف.

أنى لنا بذخيرة لا نعرف لها مستودعاً غير أكتافنا والصناديق ملقاة على الأرض فارغة أمامنا؟ أجمعنا على الإفلات من العدو الذي أدرك نفاد عتادنا فأخذ يتقدم بل يسرع في الدنو منا.

<<  <  ج:
ص:  >  >>