للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولم يقف عذابي عند هذا، ولم يغفل القدر عني. ففقدت والديّ واحداً بعد آخر. ففقدت معهما قلبين كانا يعطفان عليّ ويخففان عني قسوة الحياة، وشعرت باليتم يصهر قلبي والوحشة تفجع نفسي. ثم كانت صديقاتي؛ فقد كنّ يروين لي بعضاً من حوادث لهنّ ليخففن عني. فكان شعوري بهذا الفضاء الذي أحدثته النوائب في نفسي يشتدّ وينتشر. ولم ألبث أن ضعفت يا حازم تحت إلحاح صاحباتي، فانطلقت معهن ذلك اليوم إلى حيث قابلتك. فكنت أنا الزهرة الذاوية، وكنتَ أنت القطر الباعث. وساقني القدر في طريق الحب فلم أفكر لحظة، ولم أثب إلى نفسي إلا بعد أن أحببتك. ولم أقو على الإفضاء لك بزواجي، بتعاستي يا حازم.

وغلبها البكاء فانقطعت عن الكلام. وصاح حازم وهو يكفكف دمعه: (مسكينة يا حنان!).

- ٢ -

مضى كل منهما في سبيله مكسور الفؤاد. وعادت حنان إلى عزلتها وقد حرّك اليأس رماد قلبها وأهاج لهيب شجنها. وكانت تعمد، حينما يشتدّ بها ألم الشوق إلى الذكريات تلتمس منها عزاء ضن به عليها العالم الخارجي، فتصبح كصريع المخدر تقاسي بعد لذة قصيرة وسعادة واهية أشد الآلام. وكان أكثر ما يعذبها شعورها بما يكابد حازم من اضطراب نفسي بعد هذا الحادث، ويأسها من جل لموقفها البائس. فما كانت تستطيع أن تهجر زوجها لطيبة قلبه، وقد همت بذلك خضوعاً لحبها الجارف لولا أن خشيت لوم حازم فانتظرت أن يخطو هو الخطوة الأولى واستسلمت في انتظارها لحزن داهم وعزلة شديدة.

وعاد حازم وهو لا يفكر في غير اعتراف حنان، ورأسه يدق بالحقيقة القاسية، وقلبه يخفق بحبه الشديد. وكان كل عصب فيه ينبض بقوة كأنه يصيح: إنها متزوجة! ومضت أيام قبل أن يسكن هذيانه ويروق ذهنه. ثم لم يلبث أن اختلى بنفسه في محرابه وهو يرتعد لمجابهة قلبه لعقله. كم كان يود أن يفر في هذه الساعة الحاسمة، ولكنه كان يشعر بقوة خفية تدفعه إلى مكتبه.

أخذ يراجع حديث حنان وهو يقطع الغرفة بخطوات واسعة وقد وضع يديه خلف ظهره وطأطأ رأسه لشدة التفكير. وكان عقله الرشيد وتربيته القويمة قد حصنا نفسه؛ ولكن قلبه كان قوياً بالحب ملتهباً بالشوق. فكان الصراع بين ضميره وعواطفه عنيفاً. كان ضميره

<<  <  ج:
ص:  >  >>