للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يثور تارة وقلبه يطغى أخرى، ونفسه بين هاتين القوتين حائرة معذبة.

كان يحدث نفسه قائلاً: (ماذا دهاك يا حازم؟ كيف تخلد إلى هذا الوسواس فيحرضك على الشر، وتثابر على هذا الحب فتسلب بريئاً امرأته؟ كيف تقدم على هذا الأمر فتنقلب شيطاناً يحث على المعصية ويهدم بيتاً هادئاً؟ كيف تحل رباطاً مقدساً وتقطع صلة طاهرة فتحقر نفسك وتفقد عزتك؟ ثب إلى رشدك وعد إلى جهادك. فحذار حذار أن تستسلم لعواطفك. فالعاطفة المطلقة كالسيل، أوله انقضاض يجرف ويقتلع، وآخره نضوب وقحط. وقد وهبنا الله العقل لنقيمه سدا يحبس تلك القوة الطاغية وينظم تصريفها. إن حنان ليست لك يا حازم. . .).

ووقف حازم فجأة وضرب كفه بقبضته صائحاً: (يجب أن تنساها). وتابع سيره وهو يكرر تلك العبارة بتؤدة ويقطعها ليوحي إلى نفسي معناها ويملي عليها إرادته. ولكن أنى لعقله أن يثبت ولم يكن أمر حبه مشكلة دارجة؟ فهو لم يكن يعرف الحب من قبل. أما وقد نهله فقد أصبح الأمر مشكلة حياته. فكان قلبه المضطرم يصهر عزيمته ويشوش منطقه، وحبه المتدفق يخنق ضميره ويذهب بصورته فلا تلبث نفسه أن تصيح:

(تباً لك يا حازم! ما دمت عبداً لعقلك فقد تحرم الحياة ومتعها وتعرض عن الحب، فيطغى العقل وتنضب النفس ويفسد الذوق وتنقطع صلتك بالحياة. لا يا حازم. لا تفعل ذلك! إن حنان لك، فالأقدار لم تجمعكما عبثاً. إنه نداء القلب فأنت تلبيه، وماء الحياة فأنت ترشف منه. وكيف يقبل عقلك أن يعيش زوجان بلا حب ويأتلف قلبان بلا تمازج؟ إن حنان لك يا حازم. ولك وحدك).

كان حازم يجد في حديث نفسه لذة عظيمة، ولكنها لذة يدركها صوت الضمير الذي يأبى أن يخضع فيعود ويرتفع من الأعماق: (حذار حذار أن تسلك هذا الطريق). فكانت نفسه كرمال الشاطئ بين كر الأمواج وفرها لا تهدأ ولا تستقر. كان حبه قوياً، ولكن عقله كان يقضاً وضميره حياً. ولهذا كان حزيناً برماً. فهو لا يستطيع أن يعود إلى حنان، ولا أن يبتعد عنها.

وبينما هو في عذاب اليأس والتردد، إذ فاجأ نفسه بهذه الهمسة: (مسكينة يا حنان!). وكان يكرر تلك العبارة ولا يفطن بادئ الأمر إلى معناها. ولكن سرعان ما قفز من كرسيه حيث

<<  <  ج:
ص:  >  >>