للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في اليد قاس على الأوتار ما يلازمها قليلا حتى يقطعها أو يفسدها، فليكن مضراب عوده من قوادم النسر فهو خفيف على الأنامل رفيق بالأوتار وان طالت ملازمته لها، وهاهي ألحان القوم معدودة وأغنياتهم معروفة فليجدد هو في اللحن، وليأت من النغم بكل طريف وليُسمع القوم من أغانيه وألحانه ما يعد بالآلاف.

وكان زرياب أيضاً قد جمع إلى براعة الفن وحلاوة الترجيع سلامة الذوق وترتيب الذهن فهو سمير إذا جالس الأمير أو أشراف الأمير، وهو طيب الحديث إذا تحدث، ماهر في خدمة الملوك، يجيد استقبال الضيوف والزائرين، متأنق في ملبسه يعني بزينة نفسه حتى صار مثالاً في الأناقة يحتذى، أخذ عنه أهل الأندلس وحاكوه، فلم يعودوا إلى إرسال الشعر مفروقاً وسط الجبين مسدلاً إلى الخدين والحاجبين وإنما فعلوا كما يفعل زرياب ونساء زرياب، فحذفوا شعورهم وقصروها دون الجباه وسووها مع الحواجب ودوروها إلى الآذان وأسدلوها إلى الخدود ولم يعودوا إلى ملاحف الكتان يلتحفون بها، وإنما فعلوا كما يفعل زرياب فآثروا على الكتان أنطاع الأديم الناعمة، ولم يبق الناس على ما هم عليه من خلط بين ملابس الشتاء وملابس الصيف، وجهل بما يلائم الربيع وما يناسب الخريف، وإنما علمهم زرياب أن لكل زمان ثيابا، فللربيع الملون الزاهي، وللخريف الخفيف الملون، وللشتاء الثياب الكثيفة ذات الحشو والفراء، وللصيف البياض من الثياب، وكذلك عرف الناس مذ جاءهم زرياب صنوفا من الطعام لم تكن لهم بها دراية ولا بطعمها علم واستعمل القوم في الأندلس من العطور ما لم يألفوه من قبل، وفضلوا آنية الزجاج الرفيع على آنية الذهب والفضة لأن زرياباً كان يؤثر الزجاج ويتناول شرابه فيه.

وكان زرياب أيضاً قد علم بناته وجواريه أحسن الأغاني وأدبهن بأدبه فبرعن في الغناء وأتقنَّ الصناعة، فكانت حمدونة ابنته عند أهل بيتها في الصدر، وكانت أختها علية كذلك، وتزوجت من الوزير هشام بن عبد العزيز، أما جاريته مصابيح فقد جمعت إلى جمال الصوت جمال النبل كتب صاحب العقد الفريد إلى مولاها وقد حجبها عن الناس واختص بها مجلسه يقول له:

يا من يضن بصوت الطائر الغرد ... ما كنت أحسب هذا الضن من أحد

لو أن أسماع أهل الأرض قاطبة ... أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يزد

<<  <  ج:
ص:  >  >>