للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الثور في مستودع الخزف]

للدكتور محمد عوض محمد

جعل الثور يطوف في نواحي المدينة، ويجول في طرقاتها في ساعة غفل فيها الرعاة، وغاب الحراس. فلم يزل يمشي على غير هُدىً، حتى ساقه القدر المحتوم إلى مستودع الخزف:

في دار صغيرة متعددة الحجرات، جمع أهل المدينة تراثهم الخالد (أو الذي حسبوه خالداً) من خَزَف قديم وحديث.

وصناعة الخزف أقدم صناعات الإنسان جميعاً. بدأ يمارسها منذ آلاف السنين، وهو بعد في مثل سذاجة الأطفال، فكانت في العصور الأولى شكولاً ساذجة، وصوراً بسيطة. يراد بها النفع والفائدة، لا الزينة والحسن، فلا نقش فيها ولا تزويق، ولا إتقان في الصنع ولا إبداع. ثم لم تزل ترقى برقي الإنسان، وتمشي وإياه جنبا إلى جنب، وتحاكيه في تقدمه ورفعته، حتى غدت فناً من أجلّ الفنون، وصناعة من أشرف الصناعات. وأبدع فيها الخيال البشري أيَّما إبداع، فأصبح منها اليوم ما يعد تحفة القرون وفخار الفنون.

وهذه المدينة عريقة في صناعة الخزف البديع، قد نبغ فيها في جميع العصور، رهط من كبار رجال الفن، فرفعوا في العالم ذكرها. وحلقت شهرتها في سماء الفنون. ولم يكن لها في هذه الصناعة ضريب.

وفي هذه الدار الصغيرة، قد أودع أهل المدينة خير ما أنتجته قرائح بنيها على مدى القرون، لكي تكون معرضاً لهذه الصناعة، يزورها الناس في كل آونة، فتنعم عيونهم بما فيها من جمال باهر، وتنعم نفوسهم بما يبعثه الجمال في النفس من سعادة وغبطة. فكان بابها مفتوحاً النهار كله، يقصد إليها الناس على الرحب والسعة، في كل ساعة من الزمان.

وفي ساعة نامت فيها ملائكة السعد واليمن، واستيقضت أبالسة النحس والشؤم، ساقت المقادير العجيبة الغريبة، ذلك الثور العنيف المخيف، إلى هذه الدار - من دون الديار جميعاً!

ولم يلبث طويلاً حتى حملته أرجله إلى داخل الدار. فأجال عينيه فيما حوله، فإذا أمامه آيات الفن، مصفوفة على المناضد والرفاف: من أواني قد ألبستها الحسن يد صناع،

<<  <  ج:
ص:  >  >>