للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والطريف في هذا الباب ما يزعمه هيجو من أن الشاعر مصلح عظيم ونبي كريم، أرسله الله لقومه هادياً إلى مواطن الحرية والجمال والحب؛ وقد دفع هيجو إلى هذا الرأي الأرستقراطي غروره المسلكي، وحماسه الوطني، وتطرفه المعهود، وخياله الواثب. والحق أن الشاعر رجل مثلي ومثلك، يرى ما نرى ويشعر بما نشعر، وإنما يمتاز بنوع من الامتياز لا ينهض به إلا صف المصلحين ولا يرفعه إلى مقام الأنبياء - يمتاز من غيره من الناس بهذا العقل الحاجي المسجل الذي يقدر على الإبانة عما يرى ويشعر، ويعرف كيف يصور ما يتجاذبه من المنازع والأهواء.

فالتأمل الذهني كما ترى ضرورة من ضرورات البيان، فلا تظهر الخلجة النفسية على النحو الذي قذفتها الفطرة ودفعها التطور واكتنفتها الحياة، إلا بالمراقبة الباطنية العميقة. والممعود إنما ينبغي أن يكون على شئ من العلم بمواقع الأعضاء حتى يصف للطبيب المرض الذي ينتابه والداء الذي ينهشه، ولكن الطفل إذ يتألم لا يفقه ألمه ولا يعلنه إلا في إبهام: يصرخ ويبكي، وهذا كل ما عنده من وسائل الإعلان وأدوات الإفصاح!!

إن الأدباء المحدثين ممن نقرأ لهم ونستمع لأحاديثهم في الصباح وفي المساء، يلتزمون البساطة في اللفظ وفي المعنى، ثم ينحدرون إلى النفس المتأخرة الابتدائية التي لم يصقلها العلم ولم تهذبها المدنية، فينتزعون منها الشعور الفطير والعاطفة الساذجة، وهم موقنون أن الإخلاص في الأدب أو الصدق في التعبير لا يكون إلا حيث يكون الطفل الصغير أو الجاهل الأمي موضوع الحديث ومدار البيان، ولست أعرف انحرافاً عن الحق وخللاً في المنطق يشبه ذاك الانحراف وهذا الخلل، فإن الثقافة العلمية لن تفسد النفس والشعور، ولن تمنعهما عن البوح والظهور.

وقد كان المؤلفون اليونان يستصرخون أبطال رواياتهم، ويستدرون عبرتهم، ويتعمدون إيلامهم، وكانوا يسهبون في وصف الألم، ويذكرون بواعثه ونتائجه، ويتغلغلون إلى كنهه وحقيقته. فهم فنانون حقاً يلتمسون مواطن الجمال المنسجم، وينشرون مواضع الحقيقة الفنية، أصحاء الذوق أقوياء الحواس، يجمعون إلى تبدل اللون وتقلص العضلات واختلال الحركات تدفق الألم الداخلي، وأفاعيله النفسية، وأثره في الرءوس والقلوب. وقد ترسم شكسبير خطاهم ونهج سبيلهم، فكان يصور أوضاع الجسد ثم ينفذ إلى الألم ذاته، ويربط

<<  <  ج:
ص:  >  >>