للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أنهم على هيامهم بالتنقيح والمطالعة والتأمل، كانوا أطلق الشعراء لساناً، وأرقهم بياناً وأسلسهم لفظاً.

ومن الأدباء من لا يستوحي نفسه، ولا يترجم عن طبعه، وإنما يستقي من ذاكرته ومحفوظاته وقراءته، وهؤلاء يكتبون في غير جدوى ولا طائل، والمعروف المتداول أنهم يأتون غالباً بتشابيه مستعارة، وكنايات معادة، وصور مبتذلة لا تعبر عن (شخصية) ولا تنم عن جديد مبتدع. وإنما الرجوع إلى الطبع دون الذاكرة الحافظة هو مصدر الأدب الخالد والابتكار القويم، وليس من شك في أن التكلف يضمحل ويتزايل أثره، كلما رجع الفنان إلى نفسه وعول على طبعه واستقى من عبقريته. ولقد يجمل بالمبين أن يتناول ما تمده القريحة في الوهلة الأولى واللمحة الخفيفة، وألا يصطنع شعوراً لا يتردد في أطواء نفسه بل يأخذ ما جادت به العاطفة من غير جهد ولا عناء!!

وكلمة (أنا) ما يشتق منها قد تكون سبباً مباشراً من أسباب التكلف البياني، لأنها تتصف بالشمول وتجمع الشتات كأنما هي عنوان النفس ورمز العاطفة، والسبيل الذي ينبغي أن يسلكه الأدب الرفيع هو أن يحمل كل لفظ من ألفاظ اللغة جزءاً من النفس وقسماً من العاطفة، أما (أنا) فما ينبغي أن تكون إلا عيناً تتفجر منها الأفكار والمعاني، وتصدر عنها الأساليب واللغات، وتصب فيها فروع الكلام وأغراض البيان.

فإذا كان في هذا عسر ومشقة، فإن الرياضة والمران حقيقان بأن يذللا كل شئ، وكما يخلق اللاعب المرتاض لجسده الحواجز ليجتازها، والجبال ليتسلقها، والوديان ليهبط إليها، كذلك ليخلق المبين لنفسه طرائق ملتوية لممارسها، مهما تكن تلك الطرائق وهمية خيالية، مادامت الغاية محمودة تبرر الواسطة ثم تخضعها بالتجربة والعادة.

كانت العصور السالفة تقدم للمبين مواد التفكير الصحيح، وأسباب العاطفة الحية، وأدوات الكتابة الخالدة. وكانت الظروف والأحوال تنشئ المرء إنشاء جميلاً قوياً، وتعده لحياة شديدة فيها من الجد والنشاط، ومن الإبداع والإنتاج ما يزري بحياتنا الحاضرة الراكدة، ويستخف بعيشنا اللاهي الهازل. .!!

كان الطالب إذا نال الشهادة وخرج من المعهد لا يرى بضاعته من العلم إلا قليلة موجزة، ولا يعتقد في نفسه إلا القصور والجهل، فما يزال يقرأ في الكتب والأسفار، ويتلقى عمن

<<  <  ج:
ص:  >  >>