للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ويقول لنا أبن خلدون في سبب هذه العاصفة التي ثارت حول توليه القضاء، كلاما طويلا عما كان يسود القضاء المصري يومئذ من فساد وأضطراب، وما يطبع الأحكام من غرض وهوى، وعما كان عليه معظم القضاة والمفتين والكتاب والشهود من جهل وفساد في الذمة؛ وأنه حاول إقامة العدل الصارم المنزه عن كل شائبة، وقمع الفساد بحزم وشدة، وسحق كل سعاية. وغرض: (فقمت في ذلك المقام المحمود، ووفيت عهد الله في إقامة رسوم الحق وتحري العدالة. . . . لا تأخذني في الله لومة. ولا يرغبني عنه جاه ولا سطوة، مسويا بين الخصمين، آخذ الحق الضعيف من الحكمين، معرضا عن الشفاعات والوسائل من الجانبين، جانحاً إلى التثبت في سماع البينات، والنظرة في عدالة المنتصبين

لتحمل الشهادات؛ فقد كان البر منهم مختلطاً بالفاجر، والطيب متلبساً بالخبيث، والحكام ممسكون عن انتقادهم فيتجاوزون عما يظهر عليهم من هناتِهم. لما يموهون به من الاعتصام بأهل الشوكة، فأن غالبهم مختلطون بالأمراء، معلمون للقرآن وأئمة للصلوات، يلبسون عليهم بالعدالة فيضنون بهم الخير، ويقسمون الحظ من الجاه في تزكيتهم عند القضاة، والتوسل لهم، فأعضل داؤهم، وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم؛ ووقفت على بعضها فعاقبت فيه بموجب العقاب، ومؤلم النكال. . .) ثم يعدد نواحي الفساد التي شهدها، وجدّ في إصلاحها وقمعها، وكيف مضى في سبيله (من الصرامة وقوة الشكيمة) وكيف احتقر شفاعات الأعيان والأكابر خلافاً لما اصطلح عليه زملاؤه القضاة من قبولها، حتى ثار عليه السخط من كل ناحية، وسلقته جميع الألسن وكثرت في حقه السعاية لدى البلاط.

وهذا التعليل الذي يقدمه لنا أبن خلدون عن سبب الحفيظة عليه، واضطرام الخصومة حوله، معقول يحمل طابع الصراحة والصدق. بل هذا ما تسلم به التراجم المصرية المعاصرة والقريبة من عصره. فيقول أبو المحاسن مثلاً مشيراً إلى ولايته للقضاء: (فباشره بحرمة وافرة، وعظمة زايدة، وحمدت سيرته، ودفع رسائل أكابر الدولة، وشفاعات الأعيان، فأخذوا في التكلم في أمره. . .) ويقول ابن حجر والسخاوي: (فتنكر (أي ابن خلدون) للناس بحيث لم يقم لأحد من القضاة لما دخلوا للسلام عليه، مع اعتذاره لمن عيبه عليه في الجملة، وفتك في كثير من أعيان الموقعين والشهود، وصار يعزر بالصفع، وشبهة

<<  <  ج:
ص:  >  >>