للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وعلى ذلك فإذا كان النوري الفلاجي لا يمكن أن يعتبر عضواً في المجتمع، أو إنساناً متمدناً، فانه في طريقه ليصير كذلك. وهو منذ الآن ينزل عن بعض العادات التي كان يتمسك بها دائماً فيقص شعره ويرتدي السراويل، ويعتاد العمل، ويرغب في اقتناء الملك شيئاً فشيئاً؛ وهذا بلا ريب أساس قوي للتطور.

وأخلاق النوري نتيجة محتومة لنوع حياته، فهو لا يملك أرضاً ولا بيتاً؛ وما يملك من المؤن والأدوات وغيرها ليس له في الواقع، بل هو ملك الجماعة كلها؛ وهو لا يشعر بشعور الأسرة ولا يقدر معناها، ولما كان لا يرث ولا يورث، فسواء لديه أكان ولده منه أم من آخر. وكذلك المرأة النورية لا تختص برجل واحد كنساء الشعوب المتمدنة، فهي مخلوق همجي، لا تنكر غرائزها، ولا تستطيع أن تكبح جماحها، والطفل النوري يعيش مع أسرته في نفس الخيمة أو الكوخ، ويشهد عن قرب حياتها التناسلية، فإذا شب اتجهت شهواته الجنسية الأولى إلى الأسرة، فيعاشر الأخ أخته، والولد أمه، والأب ابنته، وتجري هذه المعاشرة دون ذرة من الحرج أو الندم. ولا حاجة للقول بأنه لا وفاء بين الأزواج، فهم كاثوليك ويذهبون إلى الكنسية في الحفلات الكبرى، ولكن مبادئهم الأخلاقية ليست نصرانية في شيء، بل هم غالباً صرعى غرائزهم الوحشية.

وقد اهتم الارشيدوق يوسف (١٨٣٣ - ١٩٠٥) بأمر النور وأبدى نحوهم عطفاً، وبعث ذلك إلى الاهتمام بشأنهم، وكان هذا الأمير العظيم الذي يعشق حياة البداوة والبساطة، ينفق كل أوقات فراغه بين النور، ويدرس حياتهم، ويتذوق رقصهم وأغانيهم وأمثالهم وأطوارهم وخلالهم، وقد حاول أن يعودهم الحياة المنظمة، وأن يجمعهم في مكان مستقر، ولكنه لم ينجح كثيراً في محاولته، ثم عكف الباحثون على جمع الأغاني والأمثال النورية وترجمتها، ولكن هذا الاهتمام فتر فيما بعد، ولما كان النور اليوم في طريق التحضر والاندماج في المجتمع المتمدن، فقد يعود هذا الاهتمام بعد فوات الوقت، وبذا تضيع معالم جنسية ونفسية إلى الأبد. بيد أنه قد يكون ثمة أسر أو قبائل مازالت تحتفظ بخلالها الوثنية، وبأساطيرها، وقصصها، وأغانيها ورقصاتها، وتلك يمكن تخليدها بواسطة السينما أو (الجراموفون).

وقد قلنا إن إبعاد النور عن المجتمع المتمدن، واضطهادهم المستمر، وحياتهم البدوية، تحملهم على الريبة والوجل والعنت وانتهاز الفرصة وسرعة التأثر، وهم لا يهتمون بِغَدِهم،

<<  <  ج:
ص:  >  >>