للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الحي فوق إنسانيته. ومثل هذا المستعبد الخاضع المقبور لا وجود له إلا في حكم حواسه، فعمله ما يعيش به لا ما يعيش من أجله؛ ويتصل بكل شيء اتصالاًُ مبتوراً ينتهي في هوى من أهواء الحيوان الذي فيه.

ومن المقابلة العجيبة أن يكون في الإنسان الاجتماعي حيوان تقابله الحكمة في الحيوان الأليف بإنسان؛ وحكمهما واحد ومنطقهما لا يختلف. فلو أنك سألت حيوان الأعصاب عن صاحبه الإنسان لقال لك: هو غلّتي ومزرعتي. ولو سألت كلباً عن حبّه صاحبه ومبلغ هذا الحب في نفسه لما زاد في جوابه على أنه يحبه حبّ اللقمة والعظمة. . .

ومتى كان الإنسان في حكم حواسه لم تعد الأشياء عنده كما هي في نفسها بمعانيها الطبيعية المحدودة، وانقلبت كما هي في وهمه بمعان متفاوتة مضطربة، فلا يشعر المرء بائتلاف الوجود وتعاونه، ولكن باختلافه وتناقضه، فمن ثم لا تكون أسباب اللذة إلا من أسباب الألم، ويدخل في كل حب بغض، وفي كل رغبة طمع، وفي كل خير شر، وفي كل صريح خبئ، وهلم جراً؛ إذ لابد من هذا كله متى غلب الفاني على الباقي، ولابد من كل هذا في تمثيل رواية الحواس الخادعة التي أساسها التغّير والتقلّب، حتى لكأن النفس إنما تعيش بها في ظاهر من الحياة لا في الحياة نفسها.

وهذا الخداع جاعل كل شيء من أشياء النفس لا يبدأ إلا لينتهي، ثم لا ينتهي إلا ليبدأ؛ فما تزال هذه النفس طامعة فيما لا تناله، ولا يزال من ذلك مصدر لآلامها الحسية؛ ثم إذا هي نالت منالها سئمت، فلا يزال من ذلك مصدر آخر لآلامها المعنوية. ولن يجئ الصحيح من غير الصحيح، فالكون كله ليس إلا كذباً في النفس الكاذبة بحواسّها.

ولذا كان أخص أوصافه صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى خروجه من سلطان نفسه، فلا يغضب لها، ولا يطلقها من الدنيا فيما تذمه أو تمدحه، ولا يحب فيها، ولا يبغض من أجلها، ولا يهاونها، ولا يستلين لها في مأكل ولا ملبس، ولا يأخذها إلا من ناحية الإيمان بالله والإيمان بالإنسانية؛ فأفراحها أحزانها، وآمالها أشواقها، وأملاكها أعمالها، وحسابها في طبيعتها، وحوادثها من العقل لا من الحواس، وعظمتها إثبات ذاتها في غيرها، لا إثبات غيرها في ذاتها؛ وغايتها في الباقي لا الزائل، وفي الخالد لا الفاني. وما دام الحاضر متحركاً فهو طارئ عابر أو شكُ أمورِ الدنيا زوالاً، والعمل له على مقداره في قلة لبثه

<<  <  ج:
ص:  >  >>