للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولزمتها خادمة الفيلسوف. وجاء الطبيب فلم يشك في أنها مسلولة مشرفة على الموت. وكثر تردد أمها عليها وكثر تردد الفيلسوف أيضاً. وكانت بين الأم والفيلسوف حول هذا الجسم الناحل وهذه النفس التي تتأهب لمفارقة الحياة، خصومات مؤلمة ولكنها لا تخلو من فكاهة. فأما الأم فكانت أسيرة الأوضاع الاجتماعية، أسيرة هذا الحب الذي يعطف المرأة على ابنتها. وأما الفيلسوف فكان أسير هذا الحب الفلسفي، ولم يكن يتردد في أن يعلن أنه وحده صاحب الأمر في هذا البيت لأنه الزوج الخالد للفتاة. ولم لا؟ لقد كان ينهض بكل ما تحتاج إليه، ويعرف من تمريضها ما ظهر وما خفي. لقد كتبت إليه مرة تقول: ما أشد حاجتك إلى الرحمة أيها العاشق التعس، فلم تظفر من خليلتك الا بشر ما يظفر به الأزواج. وكان مؤلماً جداً، وباعثاً للابتسام أحياناً أن يرى الفيلسوف جاثياً أمام السرير وهو يصلي إلى الفتاة فيدعوها أخته وزوجه وابنته. ويؤكد لها ويقسم ليعصمنها من الموت، ولأن عبثت الطبيعة بجسمها فليضمنن هو لنفسها الخلود. ولم لا؟ ألست أرقى امرأة عرفتها الإنسانية. لقد لقيت أرقى عقل عرفته الإنسانية، فلن يكون للفناء عليك ولا علي سلطان.

وساءت حالة الفتاة ودعي القسيس ليهيئها لاستقبال الموت فلم تمانع هي ولم يمانع هو. وأقبل القسيس فأدى عمله والفيلسوف يراه ويسمع له ساخطا حتى إذا انصرف أقبل فأنكر هذه العادة الدينية التي تنتزع المريض انتزاعاً من الحياة لتدفعه بين ذراعي الموت.

أقبل عذب الصوت رضي النفس حنون القلب فجثا إلى السرير وحنى على الفتاة وأخذ يحدثها أحاديث عذبة كلها أمل وكلها رحمة. ثم انصرف وعاد فإذا الأسرة كلها مجتمعة وإذا هم يأبون عليه أن يصل إلى المريضة. فتثور ثائرته ويخرج عن طوره ويأبى أن ينصرف ويهم بإخراجهم جميعا لأن المريضة زوجه وخليلته وهي له وحده دونهم، بذلك اعترفت له وعلى ذلك أقسمت له فيجب أن يخلى بينه وبينها. فأما الأم فتنكر وتبكي وتستخذي. وأما الأخ فيقبل على أستاذه منذرا. وأما الأب الشيخ فيقبل هادئا وقوراً يطلب إلى الفيلسوف أن يدع المريضة لأهلها.

فانظر إلى الفيلسوف وقد جثى أمام الشيخ ضارعاً مستعطفاً حتى رق له الشيخ فقال أنصرف الآن ولك علينا أن ندعوك إذا استيئسنا منها. خرج الفيلسوف فلزم داره فلما كان من غد جاءه الرسول فأقبل مسرعاً حتى انتهى إلى البيت. فلما رأته الأسرة انفرجت له

<<  <  ج:
ص:  >  >>