للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[حقائق التاريخ لا يمكن أن يطمسها التشريع]

صفد القلم، وصفدت حرية الرأي والفكر في مصر، في الأعوام الأخيرة، بأغلال وقيود شتى لم نعرفها حتى في أشد أيام الاحتلال؛ والتمس المشرع لصوغ هذه الأغلال والقيود مختلف المعاذير في مختلف الفرص؛ فتارة يقال لنا إنه يشرع لحماية النظم الأساسية للدولة من الدعوات والمبادئ الثورية، أو لحماية الحكومة والهيئات العامة من مطاعن خصومها السياسيين؛ وتارة يقال لنا إن سيل الأدب الملحد أو الماجن يكاد يطغى على الدين والأخلاق، فهو يشرع لحماية الدين والأخلاق؛ وكان التشريع يجري في هذه الحدود إلى ما قبل بضعة أعوام؛ وكنا نعتقد أن المشرع قد وصل في مختلف القوانين التي أصدرها إلى ذروة الشدة والتحوط لما يريد تحقيقه من الغايات السياسية والاجتماعية، وإنه لم تبق للقلم والرأي حريات حقيقية يستطيع أن يحد منها بعد؛ ولكن صدرت في الأعوام الثلاثة الأخيرة عدة قوانين جديدة للقضاء على ما بقى من مظاهر حرية الرأي والقلم، أولها قانون الصحافة المعروف، وثانيها قانون تحريم نشر الأخبار الجنائية والقضائية والإدارية إلا في حدود معينة، وثالثها قانون تعديل العقوبات الخاصة بجرائم النشر والسب والقذف، ودفعها إلى حدود لم يسمع بها من قبل، وأخيراً، في هذه الآونة، يقال لنا أن المشرع ينشط من جديد لفرض أغلال وأصفاد جديدة لا

على الصحافة وحدها، بل على ناحية أخرى هي عرض التاريخ أيضاً.

إذاً لم تنته حلقات هذه السلسلة المدهشة من قوانين وأحكام فريدة في شذوذها وشدتها، بل يراد أن تكمل بما يرى المشرع أنه نقص في حلقاتها حتى يكمل سحق البقية الباقية من هذه المظاهر الضئيلة التي يستطيع القلم المصفد أن يبدو فيها خلال هذه الخطوب التي تغمره؛ ويراد فوق ذلك أن يتناول التشريع الجديد ناحية علمية أدبية محضة كان المشرع يحوم حولها من قبل بطرق ونصوص غير مباشرة؛ ولكنه يزمع اليوم أن يتناولها صراحة وبطريقة مباشرة؛ فيفرض قيوداً خاصة على كتابة التاريخ، ويعاقب أولئك الذين يسمحون لأنفسهم بحرية العرض أو النقد في تدوين حوادث التاريخ أو تراجم أشخاصه.

ليس هنا موضع التحدث عن هذه القوانين من الناحية الدستورية أو السياسية فقد قتلتها الصحافة السياسية من هذه الناحية بحثاً ومناقشة؛ ولكنا نريد فقط أن نتحدث عن أثر هذا التشريع المنشود في سير الحركة الأدبية والمباحث التاريخية.

<<  <  ج:
ص:  >  >>